( 25 )

حوار مع أبى العلاء المعرى

...

- عم صباحا يا معلم !

- عم مساء كان أولى أن تقول ..

فصباحى كالمساء !

- لاترى الضوء ذُكَاء

وهى نبع للضياء ..

- قلت قبلا مثل هذا .. أو قريباً منه قلت :

" أتدرى الشمس أن لها بهاء ! " .

- أنت ما خَلَّفْت من شىء لشاعر ،

إِذْ تحديتَ فأعجزت الأوائل ،

والأواخر وأنا قد جئت في ذيل الأواخر .

فتجاوز عن قصورى .. أو تقبل كبديل ،

مثلا جاء من اليابان " طازة " :

" ترتمى الظلمة دوما تحت أقدام النهار ! " .

- مثل واللّه لا بأس به طابق الحال بياناً وبلاغة .

غير أنى لم أسغ قولك ( طازة ) .

بدلاً من قول ( طازج ) !

- سيدى كم حرت فى أمرك .. حقا لست أفهم ...

كيف يغدو ثائر القوم ولوعا بالقيود!

- كنت أهفو للخلود .

- كان يغنيك الذي يلزم عما ليس يلزم !

- لاتكونوا كالثعالب ..

تدعى في العجز زُهْداً فتسمى الكرم حصرم !

- ما عجزنا ويمينا بالخليل ..

كلنا قلنا من الشعر المقفى

قبل أن ننظم من غير المقفى .

- هات شيئاً من مقفاك القديم !

" هيئوا اللحد والكَفَنْ * ها هنا غاية البدنْ

مَلَّتِ النفسُ عيشَها * وغــدتْ تطلـب السَّكَنْ

شَدَتِ الروحُ للثرى * ليتهـا تقطــع الرَّسَـــنْ

علها تعرف الـذى * غاب في التَّيهِ و ادَّفَنْ "

ثم ضقنا بالخليل !

- ولماذا ؟

- مثلاً .. لو لم نقف عند " ادَّفن " .

لأَتَيْنا في تداعى القافيه ؟

" بالعفن " !

- ولكم جيل ولى في الشعر جيل .

غير أنى موقن أن " العفن " .

ربما يأتى بدون القافيه .

مثلما يأتى بحكم القافيه

- مستحيل !

- " وقد يفسد الفكر في حالة * فيوهمك الدر قطر السرا "

هات من أشعاركم بعض النماذج ..

كى نرى :

" طبق الأصل "

( أ )

" سيزيف قال لشهرزاد ..

الصخرة العمياء أدركها الصباح

وجناح ديدالوس ينشد للرياح ..

أنشودة الدم والجليد :

ما زلت .. ما زال العبيد ،

ما زالت اللعنات تجري في الوريد ،

ياريح ما زال الصديد علي الصديد ،

ما زالت اللعنات تجرى في الوريد ،

ياريح .. ما زال الصديد على الصديد ،

كالعجه الصفراء .. فاخسأ يا زيوس

يارب أرباب التيوس ،

أنا لم أعد منهم .. أنا ما عدت تيسا .. فاشهدى ياشهرزاد ! "

أبو العلاء : التيس ثار على التيوس ..

لاهُمَّ فالطُفْ بالعباد !

( ب )

نهداك ومصباح أحمر ..

قمعا سكر ،

فرخان بعش من مرمر ،

أرنبتان ..

قُبّرتان ..

وتران لقيثار أخضر ،

يا للأنغام اللبنية ،

النغمة ترقص للنغمة ،

وأنا في صدرك ثعبان ،

مجنون .. يشفط في الحلمة ..

حتى يسكر !

أبو العلاء : يازمنا ملعونا أغبر ..

من قال بأن الانسان ،

لا ينهش لحم ( النسوان )

في ضوء المصباح الأحمر ؟ !

( ج )

" أحداق تابوت على الأسياخ خفاش يموت :

وسعال برغوث يعوم بقلب حوت ،

والفأرة الحمراء مشنقه المغيب ،

والعنكبوت ..

في القِدْرِ مثل الثلج يغلي ،

وذيول قديسين ما زالت تصلى ..

للقرد .. والعرافة الشمطاء .. جمجمة تبول ،

والريح خازوق يطول ..

أبو العلاء : الريح خازوق .. وخازوق يطول ..

" هذا كلام له خبىء * معناه ليست لنا عقول "

أبو العلاء : " انما هذه المذاهب أسباب * لجلب الدنيا إلى الشعراء (4) "

ثم من باب الفضول ..

- سيدى هل استمر ؟

- بل كفانى وكفاك ..

" فرقا شعرت بأنها لاتقتن * خيرا وأن شرارها شعراؤها ‍‍‍‍‍!"

هم يلزمون - وحق ربك - لا أنا ما ليس يلزم ‍!

- سيدى .. هذى من " الشراح " بعض العينات .. !

تشرح القلب الحزين !

- ان يكن هذا هو ‍الشعر الجديد .

فيقينى أن يجىء الشرح ( شرحه ) !

" وما أدب الأقوام في كل بلدة

إلا المَيْن الا معشر ( شراح ) (5) "

ثم من باب الفضول ..

ياترى ماذا يقول اليوم عنى ؟

- أكثر الشراح في شعرك علكا والرواة ..

- ويلنا منهم .. وقالوا :

- متشائم !

- البهائم !

" فأَلْفَيْتُ البهائم لاعقول * تقيم لها الدليل ولا ضياء "

قل لهم كم همت حبا بالحياة :

" سألناها البقاء على أذاها * فقالت عنكم حظر البقاء "

- قلت في الموت الكثير ..

- كنت للموت غريما :

" وكيف أقضى ساعة بمسرة * وأعلم أن الموت من غرمائى "

كيف لا أكره ما يسرق منى ما أحب ؟

ثائراً كنت على الموتين : موت في حياة ..

وحياة بعد موت !

- سيدى .. من كان بعد الموت بين الغرماء ؟

- الرياء .. !

" وقد فتشت عن أصحاب دين * لهم نسك وليس لهم رياء ! "

- ما بتبريزك خلدت ولكن بتحدى الزيف أدركت الخلود .

- كان عقلى مثلما النسر سجينا في قفص ،

بزمان كان فظا " كالمغص " !

- هكذا حتما بحكم القافية !

- بل لقد ضاق بي الكون .. ومُذْ قال غيرى :

" وهل يأبق الإنسان من ملك ربه

فيخرج من أرض له وسماء "

- أيها الثائر .. لم لذت بدارك ؟

- " أولو الفضل في أوطانهم غرباء ! "

- لِمَ لَمْ ترحل ..

- إلى أين الرحيل ؟

أى فرق بين أن أنفى بعصرى ،

لو تروم الصدق أو أنفى بدارى ،

أو أرانى ضائعاً في غير دارى ؟ !

- أى سر كنت تعنى حين قلت :

" ولدى سر ليس يمكن ذكره * يخفى على البصراء وهو نهار

أما الهدى فوجدته ما بيننا * سرا ولكن الضلال جهار "

- من عهد آدم قام للفهماء في الناس الرقيب كأنه الجزار !

- أنت كيخوت ..

- أبيت اللعن .. من كيخوت هذا ؟ !

- شاعر يعبر في كل العصور ..

- وضرير ؟ !

- بل بصير كالضمير ،

وشجاع كالضمير ،

وتعيس كالضمير ..

في زمان أجوف الجنبين .. معدوم الضمير !

- رحمة اللّه عليه وعلينا ..

" غلب المين مذ كان على الخلق وماتت بغيظها الحكماء ! "

( 26 )

العشاء الأخير

...

- غدا أكون على الصليب

أنا العريس !!

- نفديك بالدم يا معلم .. بالنفوس ..

- لاتكذبوا .. فلسوف يسلمني الذي منكم يشاركني الغموس !!

- أأنا أخونك ؟

- أنت قلت !

- ستنكرني ثلاثا قبلما الدَّيكُ يصيح .

-إنَّا لنقسم يا مسيح .. !

- لاتقسموا .. فغدا أكون على الصليب ،

وغد لناظره قريب !

( 27 )

لم الخداع ؟

إلى اللقاء - تقول - قل لهم إلى الأبد الوداع !

لا .. أنت تقتلهم إذا قلت الحقيقة ،

يا للحقيقة !

كالخنجر المسموم يغرس في قلوبهم الرقيقة ،

هل يجهشون وأنت تكتمها ، فماذا يفعلون ..

لو قلتها .. لو قلت للأبد الوداع ؟ !

لا .. لا مفر من الخداع ..

إلى اللقاء !

( 28 )

زرعت عند بابكم صفصافة ،

في فرعها علقت قلبى .. قلت : راحل حبيبتى الوداع ،

انى قرأت في كتيب قديم ،

نصيحة يقولها حكيم :

( يا أيها العشاق ..

لاتدعوا الهوى ،

من قبل أن تجربوا الفراق ! )

حبيبتى رحلت كى أجرب الفراق .

وساعة الرحيل

من قمحنا أخذت حفنتين ،

من نخلنا أخذت تمرتين ،

من قطننا أخذ لوزتين ،

من نيلنا أخذت جرعتين ،

من شعرك الجميل خصلتين ،

ومرت الأيام ..

اليوم يا حبيبتى بشهر

والشهر ياحبيبتى بعام

والعام يا حبيبتى كدهر ،

يا أيها الحكيم اني فارس العشاق ،

ما لوعة الأشواق ،

أنا الذي من بينهم عرفت ما الفراق ،

ما لوعة الأشواق

قلبى على صفصافتى يخضر لو تخضر ،

يرف لو ترف ،

يدف كالعصفور لو يداعب النسيم ..

أوراقها .. يخضل لو تخضل ،

يبتل لو تبتل بالمطر ،

يهتز لو تهزها الرياح ،يرتجف ،

يجف لو تجف .

صفصافتى أنا .. أنا أموت لو تموت !

( 29 )

ويلاه .. حتى أنت يا بروت ! ..اذن قد تم ثالوث المحال ،

( الغول والعنقاء والخل الوفى )

واذن فما في الأرض انسان ، وما تحت الجلود..

غير السعالى والثعالب والذئاب

أم علها أضغاث كابوس .. أحقاً بروث ؟

أغرز بصدري النَّصْلَ حتى آخر المقبض .. إما أن أموت ..

أو أن أفيق ! .

أم أننى من قبل كنت أعيش في حلم جميل ،

والآن أصحو كاليتيم على حريق !

هل كان حلما يا صديقى .. يا .. صديق ؟ !

باللّه لاتطرق وحدق فى .. حدق ..

لأغوص في عينيك حتى القاع ..

دعنى ألمس الغدر الدفين لكي أصدق .

جحران .. بل بئران .. بل قبران .. لا بل خنجران !

هاتوا إذن لوحا من الصوان

وأتونى بإزميل لأنقش فوقه رسم الخيانة .

الوجه وجهك يابروت ؟

وهناك في الأعماق يقعى قلب أفعى ..

يرحم اللّه الضحايا .. يرحم اللّه الضحايا .

( 30 )

يقولون هذا زمان يهوذا .

فياليتهم صدقوا الخبر ،

يهوذا أصاخ لصوت الضمير

وأسرع من عاره فانتحر ،

وأنت .. متى ياترى تستفيق

متى تستفيق .. متى تنتحر ؟ !

( 31 )

الألفاظ كما المرآه

ماذا يقبع للسعلاه ..

في المرآه سوء السعلاه ؟

ماذا يبسم للانسان ..

في المرآه سوى الانسان ؟

فى ألفاظك إعرف نفسك !

الألفاظ لها ميزان .

ثمة لفظ قد يكسبك العالم لكن .. تخسر نفسك !

ثمة لفظ قد يفقدك العالم لكن .. تكسب نفسك !

ذِنْ الفاظك تعرف نفسك ..

( 32 )

وتدعونى لمائدتك

فلا ألقى سوى جيفة ،

ألا فاهنأ بها جيفة ،

فلست ذبابة زرقاء تعزف لحنها الدامى على الموتى ،

لحاك اللّه .. هل تعمى لهذا الحد !

_____________

4- الأصل لدى أبى العلاء " إلى الرؤساء" .

(5) الأصل لدى أبى العلاء " معشر أدباء " .