برق الضاد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

برق الضاددخول

منتدى ادبي شامل يعني بفروع الادب العربي


description العلم بالعربية من أسس العقيدة في الإسلام  /       عباس أرحيلة Empty العلم بالعربية من أسس العقيدة في الإسلام / عباس أرحيلة

more_horiz

العلم بالعربية من أسس العقيدة في الإسلام



عباس أرحيلة

تمهيد:



وُضعت
اللغات لدى شعوب الأرض لإقدارها على التفاهم والتواصل، وحَمَلَتْ اللغات
رسالات رب العالمين إلى بني آدم على الأرض، وتمكن هؤلاء بواسطتها من تنظيم
حركة وجودهم وتطوير مواهبهم، ولم يبقَ من اللغات التي تحمل كلام الله إلا
اللغة العربية.


واللغة
العربية حملتْ آخر تلك الرسالات، وأُريد لها أن تكون لسان الوحي الخاتم،
وأن تستوعب دليل نبوة الإسلام، وتختزل مضامين الرسالات السابقة، وتنطوي على
المنهج الذي ارتضاه الله لخلقه إلى يوم الدين. وهكذا جاء الوحي في الدين
الخاتم في شكل نص لغوي تميّز بمنهج في التعبير تصِحُّ به الحياةُ على الأرض
إلى نهاية الحياة البشرية على الأرض.




أولا: تحدّيات واختبارات:



تعرّضت اللغة العربية في مسار تطورها العام لتحديات واختبارات، لم يتعرض لها غيرُها من لغات شعوب الأرض في التاريخ الإنساني.

لقد
واجهت اللغة العربية مجموعة تحديات، تحدَّدتْ بها قدراتها على التبليغ
والتفاعل مع الوجود المادي والروحي للإنسان، حتى استطاعت أن تكون لغة
حضارة.


* التَّحَدِّي الأول:

أول
تَحَدٍّ للغة العربية في وجودها وتاريخها هو اصطفاؤُها أن يُناطَ بها
الإعجاز؛ أي أن تقوم دليلا على أن الموحَى به من رب العِزَّة، وأنه آخر
رسالات السماء إلى أهل الأرض.


فحين
بلغت هذه اللغة أوجَ عنفوانها عند أمة تميزت بين شعوب الأرض بالقدرة على
الإفصاح عن مكنون النفس في الوجود؛ تعرَّضتْ لامتحان تَحَمُّلِ الوحي!


هل
يُمكن أن يتنزَّلَ باللغة العربية نصٌّ لُغويٌّ يحملُ منهجاً إلهيا، يحملُ
خطاباً موجّهاً لكافة شعوب الأرض، خطاباً يخترق الزمان والمكان، ويستجيب
لكل ما يجدّ من ظواهر وتحولات؟


من هنا " كان القرآن حدثاً ضخماً في تحويل حياة اللغة وتوجيهها إلى أن تكون لغة فكر يُخطط لمستقبل هذه اللغة"(1).

* التّحَدِّي الثاني:

أن
تحُلَّ اللغةُ العربيةُ محلَّ اللغاتِ القديمةِ في وقت وجيز، ويدخل كثير
من تلك اللغات متاحف التاريخ. فقد عايشت العربية أكبر انصهار بين الأجناس
في التاريخ البشري، وعانت من أشكال الغُربة والعجمة واللحن، لكنها صمَدتْ
في وجه التحوّلات، ورافقتها عيون ساهرة في تنقيتها وتقويم ألسنة الناطقين
بها، فكانت لغة العلم بدون منازع في الأصقاع التي عرفتها الحضارات القديمة.


* التحدّي الثالث:

تحمّلها
لترجمة ما تراكم من المعارف الإنسانية التي كانت تتطلّع إليها الدولة
الإسلامية لاستكمال نهضتها. فتمّ نقل تلك المعارف، وتم شرحها واختصارها،
بما تستلزمه من مصطلحات، في ضوء قناعاتها؛ فكان هضمها والتفاعل معها،
وتوجيهها وجهة تستجيب للضوابط الحضارية للأمة الإسلامية.


* التحدي الرابع:

مع
مطالع القرن الهجري الرابع سادت اللهجات في العالم العربي الإسلامي، وبدأت
السليقة العربية تخفت وتتوارى، وعجز أهل اللسان العربي عن مواكبة المعاناة
اليومية، وأصبحت العربية تُتعلَّمُ تعلما، تعيش في معاقل العلم الذي أصبح
بدوره يُؤخذ من الصحف. وظهرت الفارسية من جديد فزاحمت العربية في القرن
الرابع، لكن العربية ظلت لغة الثقافة والعلم محافظة على إشراقها وإشعاعها.


* التحدي الخامس:

بعد
الهجمتين المغولية والصليبية على معاقل الثقافة الإسلامية، حاولت اللغة
التركية أن تسود في تلك المعاقل، ثم تلتها الصدمات مع لغة المستعمرين،
وتعرض القرآن الكريم لأنواع من الترجمات وبجميع لغات الأرض تقريبا، ومع ذلك
ظل للعربية حيويتُها وانبعاثها المتجدد، وإن تقاعس أهلها وذهبت ريحهم،
وأصبحوا - في هذه المرحلة من التاريخ البشري - مستضعفين في الأرض.


فامتُحنتْ العربية بدعوات التجديد، وخاضت غمار الترجمات من بعض اللغات، وامتحنت بأشكال الهجوم، والتهميش، والعداء من أبنائها، وامتُحنت بتعدد المصطلحات من العلوم والمعارف الحديثة، وأهلها يوجدون خارج المختبرات، وكل هذا في لحظات تخنقها اللهجات الممزوجة باللغات الأوربية.



ثانيا: اعتماد البيان في خدمة الحضارة الإسلامية


القرآن
وحيٌ إلهيٌّ، منهجٌ يُنظم حركة الحياة منذ انبثاق الإسلام في جزيرة العرب
إلى نهاية هذا العالم، منه ومن النص الحديثي تُستلهم أسس النظر في الألوهية
والكون والأوضاع البشرية على الأرض.


منهجٌ
يُوجّه النزوع البشري على الأرض، ويتجاوب مع حاجيات الإنسان المادية
والمعنوية، وله قدرة على التجدد والصمود أمام التحولات، وتميز بانفتاحه على
كل مصدر للمعرفة لا يتعارض مع مقاصده.


والمنهج
القرآني خطاب لغويٌّ محروسٌ بمعجزة بيانية. منهجٌ يقوم على دعامتين: لغة
وفكر؛ ذلك أن حضارة الإسلام على دين معجزتُه في طريقة تبليغه؛ أي أُنيط
بالنص القرآني أن يُستدل به على المعجزة وأن يقوم دليلا على نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم، وأن يحمل فحوى مقاصد الرسالة. ولا يُمكن إدراك هذه المقاصد
إلا بفهم خطاب الرسالة؛ أي في أضوء أسرار العربية وطرائقها في الأداء
البياني.


كيف
يتجدّد نصٌّ لغويٌّ في حياة البشر، وهو على صورته الأولى لا يتغيّر منه
حرف، كيف يُواكب التطورات وخطرات العقل البشري، ويتعايش مع الأهواء
والإديولجيات؟ كيف واجه ويُواجه محاولات إطفاء نوره في الأرض بأساليب
شياطين الإنس والجن، منذ بداية نزوله إلى اليوم؟


لا
شكَّ أن لهذا النص صيانة من رب العزة، وأن له من الخصائص الذاتية ما يضمن
له الخلود والتجدّد؛ خصائصُ تُذكِّرُ دوماً بمصدره، وتجعله منبعاً ثرّاً لا
ينضب؛" متْلُوّاً لا يُمَلُّ على طول التلاوة – كما يقول ابن قتيبة – ،
ومسموعاً لا تَمَجُّهُ الآذان، وغضّاً لا يَخْلَقُ على كثرة الرَّدِّ،
وعجيباً لا تَنقضي عجائبُه، ومفيداً لا تنقطعُ فوائدُه" (2).


ومن
هنا تقرّر لدى علماء الإسلام أن فهم الرسالة،عقيدةً وشريعةً؛ يحتاج إلى
فقهٍ بأداة الخطاب يُمكِّنُ المُخاطَب من إدراك حقائق التنزيل والوقوف على
أسراره ودلائل إعجازه.


ولما
كان الإعجاز يبقى في القرآن ببقاء النص؛ ضمِنت العربيةُ لنفسها الخلود،
وأضحت محطَّ اهتمام المسلمين يعملون على جمعها وتدوينها وتنقيتها من
الشوائب والدفاع عنها؛ فأصبحتْ علماً قائماً بذاته له أُسسه وضوابطُه. فلم
يعد العلمُ بالعربية أداةً للثقافة بل أصبح جوهر الثقافة.




ثالثا: العلم بالعربية أساس الثقافة في الإسلام:


أثار القرآن منذ اللحظات الأولى لنزوله حركة فكرية عند العرب، وخاصة حين دعاهم إلى تدبره، فقال تعالى:,أفلا يتدبَّرونَ القرآنَ أم على قلوب أقفالُها- [ سورة محمد، آية 24].

ونجد موقفين من القرآن:

أ
– موقف طائفة اطمأنتْ إلى القرآن وخلتْ إليه تُترجم تعاليمَه سلوكاً، بعد
أن أدركت سموّه، وأُخذتْ بروعته، وفاضت نفوسها خشيةً ورهبةً
, وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً- [ الأنفال، آية 2].

ويعجَبُ القرآنُ من أناس تبلّدت مشاعرهم فلم تأخذهم للقرآن روعةٌ. قال تعالى: ,فما لهم لا يُمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون- [ الانشقاق، الآيتان20 – 21].

ب
– وموقف طائفة كفار قريش، استكبرت على الإذعان لمفعول القرآن في النفوس،
وتحيَّرتْ في وصفه؛ فكشفتْ أقوالُها عمّا استشعرته من جمال القرآن، وأحسنت
وصف نفسها حين قالت:


- ,وقالوا قلوبُنا في أكِنَّة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقْرٌ ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل فإننا عاملون-[ فصلت، آية 5].

وافترى
المشركون أقوالا لتفسير ظاهرة الوحي – لا تختلف عن أقوال المستشرقين في
العصور الحديثة – بردها إلى الأساطير والسحر والكهانة والشعر.


وحاول المشركون أن يصدّوا الناس عن سماع القرآن؛ تيقنا منهم أن أنه يفرض إعجازه على كل من سمعه.

وكلما
ابتعدنا عن صدر الإسلام عظُم الاتصال بالأعاجم وبدأت رحلة النص القرآني في
أكناف الأرض لدى شعوب عششت فيها الملل والنحل القديمة. وامتدت العجمة إلى
لسان الناطقين بالعربية، وسعت الشعوب الدخلة في الإسلام إلى تعلم لغة
القرآن حتى تتعرف أحكام الدين الجديد.


فأصبح
النص محط فهوم شعوب وريثة للحضارات القديمة، يُحتكم إليه في كل ما جد،
ويُستلهم في تبنِّي الآراء واتخاذ المواقف، بل إن حرب العقيدة قد اشتعلت
طعنا وتشكيكا في القرآن، فاتجهت العناية إلى تقريب النص من الأفهام، ونشأت
علوم العربية مرتبطة به ارتباطا وثيقا فازدهرت الدراسات اللغوية؛ عنايةً
بالنص القرآني أداءً وفهماً، وإثباتاً للهوية الإسلامية في محيط اختلطت فيه
ديانات السماء بديانات الأرض. وبرز التيار اللغوي في تفسير القرآن في
اتجاه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، حين ربط بين القرآن ومعرفته
بالعربية وخصائصها وأساليبها في الشعر. قال:"إذا أعيتْكم العربية في القرآن
فالتمسوها في الشعر فإنه ديوان العرب"(3).


وبامتدادت
الفتوحات، وانصهار الأجناس في بوتقة الشعب العربي؛ دعت الحاجة إلى تقريب
معاني القرآن من الأذهان؛ فانطلقت حركة التأليف حول القرآن للكشف عن علومه
ومعانيه وغريبه، والتنقيب عن أنماط أسلوبه. وتم التركيز في أوج مرحلة
التدوين على إثبات عربية القرآن مع مقابلة ذلك بما تعارف عليه العرب، مع
حاجة العصر إلى رغبة السائلين عن معاني القرآن (4).


وواضح
أن حركة التأليف حول القرآن كان الباعث عليها هو ما استشكله الناس من
معاني القرآن. وملاحقة المعنى كانت وراء نشأة العلوم في الإسلام، كما هو
واضح في النحو والتفسير وأصول الفقه وعلم الكلام.


والمكتبة
القرآنية في فهرست ابن النديم ( تاريخ تأليف الكتاب:377هـ) بلغت حوالي
مائتين أربعة وأربعين كتابا ( كتب التفسير:44 – الكتب المؤلفة في معاني
القرآن ومشكله ومجازه:25 – لغة القرآن:6....).


وإذا
كان علماء العربية قد حثّوا على تعلم العربية خلال مرحلة التدوين، فإن
الإمام الشافعي (204 هـ) اعتبر تنبيهَ العامة إلى أن القرآن نزل بلسان
العرب خاصةً نصيحةًً للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركُه كما يقول
(5).


وبَيَّنَ
الشافعي أن الله تعالى خاطب العرب بلسانها، وعلى ما تعارف من أساليبها في
أداء معانيها. وحدّد بعض وجوه الخطاب إلتي بجهلها يقع الاضطراب في فهم النص
وتأويله، ودعا إلى الاحتكام إلى منطق اللغة. " لأنه لا يَعلمُ من إيضاح
جُمل الكتاب أحدٌ جهِلَ سعة لسان العرب وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقه.
ومن علمه انتفت عنه الشُّبَه التي دخلت على من جهل لسانَها"(6). وأكد
الشافعي أن القرآن لم ينزل"إلا على مصطلح العرب في المحاورة والتخاطب
والاحتجاج والاستدلال"(7). فالشافعي يتحدث عن فهم النص فهما لغويا مهتديا
بطرائق اللغة العربية في التعبير.


وتقررت
هذه الحقيقة عند معاصريه وعند مَن جاء بعدهم. خاصة وأن المرحلة طبعها
الجدل وعلم الكلام والطعن على أسلوب القرآن وتسرب أعداء الإسلام من باب
المجاز جهلا منهم بأنماط التجوز في التعبير العربي. وقد ذكر الجاحظ (255
هـ) نماذج من طعون الملحدين وممن لا علمَ لهم بوجوه اللغة وتوسع العرب
فيها، من ذلك قولهم في آية النحل:
, يخرج من بطونها شراب-،
قالوا: العسل ليس بشراب، إنما هو شيء يُحوَّل بالمادة شراباً. ويردُّ
الجاحظ بأن الله تعالى:" سمّاه شرابا؛ إذ كان يجئ منه الشراب، وقد جاء في
كلام العرب أن يقولوا: جاءت السماء بأمر عظيم، قال الشاعر:


إذا سَقَطَ السماءُ بأرض قومٍ رعيْناهُ وإن كانوا غِضابا

فزعموا
أنهم يرعون السماء وأن السماء تسقط. ومتى خرج العسل من جهة بطونها
وأجوافها. ومَن حمَل اللغةَ على هذا المَركَب لم يفهم من العرب قليلا ولا
كثيراً. وهذا بابٌ هو مفخَر العرب في لغتهم، وبه وبأشباهه اتسعت (...) وقد
خاطب بهذا الكلام أهل تهامة وهُذيْلاً وضواحيَ كِنانةَ، وهؤلاء أصحاب العسل
(...). فهل سمعتم بأحد أنكر هذا الباب أو طعن عليه من هذه الحجة"(Cool.


وقال
ابن قتيبة (276 هـ) في ( تأويل مشكل القرآن):"وإنما يعرف فضلَ القرآن مَن
كثُر نظرُه واتسع علمُه وفهم مذاهب العرب وافتتانها في الأساليب، وما خَصَّ
اللهُ به لغتَها دون جميع اللغات"(9).


وأول
محور منهجي حدده الطبري في مقدمة تفسيره، معاناة رياضة العلوم. يقول:"إن
أولَ ما نبدأُ به القيلَ (...) البيانُ عمّا في آي القرآن من المعاني التي
من قِبَلِها يدخلُ اللَّبْسُ على من مَن لم يُعانِ رياضةَ العلوم، ولم
تستحكِمْ معرفتُه بتعاريف وجوه منطق الألسن السليقية والطبيعية"(10).


وعقد
أحمد ابن فارس (395 هـ) في كتابه (الصاحبي) باباً عنوانُه:"باب القول في
حاجة أهل الفقه والفُتيا إلى معرفة اللغة العربية". قال فيه:"إن العلم بلغة
العرب واجبٌ على كل متعلم من العلم بالقرآن والسنة والفُتيا بسبب، حتى لا
غِناء بأحد منهم عنه؛ ذلك أن القرآن نازلٌ بلغة العرب، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم عربيٌّ. فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جل وعز، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب، لم يجد من اللغة بدا"(11).


وأكد ابن فارس أن الغلط من جهة اللغة يظهر خطرُه فيما يُغَيَّرُ به حكمُ الشريعة.
رابعا: الطلب التشريعي عمدتُه العربية
رمزت اللغةُ العربية؛ باعتبارها لسان الوحي، لتجليات الحق ودلت عليه، وجاء النص زاخراً بخصوبة المعاني وقوة الإيحاء.

والمعنى
في هذا النص يرتبط بأمر عقدي أو تشريعي، ويأتي العلمُ بالعربية للكشف عن
مراد الله، وتحديد شرع الله، فأُثيرتْ في الثقافة العربية مشكلة المعنى،
وعلاقتها بالألفاظ الدالة عليها، وكان للأصوليين ريادة في مدارسة المعنى
وعلاقة اللفظ بالمعنى داخل عملية التفكير؛ إذ اللغة تعبير عن الفكر.


من
هنا كانت عناية الأصوليين بكيفية استنباط الأحكام من الكتاب والسنة من
دلالات النصوص وسياقاتها، واحتلت المقدمة اللغوية من كتب الأصوليين مكانة
خاصة، واشتملت على أبحاث مطولة في تقسيمات اللفظ بالإضافة إلى المعنى،
وعرضت في مجملها لقضايا المعنى وضبط القوانين في فهم النصوص (12).


وغاية
الأصولي أن يستنبط حكما شرعيا من عبارة النص، أو إشارته واقتضائه، وفحواه،
لضبط معناه، ولا يتأَتَّى له ذلك بفهم ما تُؤديه العبارة على مذاهب العرب
في القول. "ولأنه – كما قال الشافعي مؤسس علم الأصول – لا يعلم من إيضاح
جمل علم الكتاب أحدٌ جهِل لسان العرب"(13). وهو جهلٌ يُؤدي إلى تحريف مدلول
النص، وما يترتب عنه من تعطيل لمنهج الله، خاصة وأن في القرآن محكما
ومتشابها، وفيهما درجات من الوضوح والغموض، وأنماط من أساليب التجوّز في
التعبير. ومن جهة المجاز – كما يقول ابن قتيبة – غلِطَ كثيرٌ من الناس في
التأويل، وتشعّبتْ بهم الطرق واختلفت النِّحَل" (14).


وهكذا،
فَفَهِمُ النصوص هو منطلقُ البحث على الأدلة الشرعية، والفهمُ موكولٌ إلى
المعرفة الدقيقة باللغة، وبتصاريف القول فيها؛ إذ لا يتأتّى استنباط حكم لا
تقتضيه طبيعة اللغة.


فالمعنى
الشرعي يُؤخذُ من الدليل اللفظي. وقد يُستدلُّ عليه بغير اللفظ، ولكن يظل
اللفظ دالا على المعنى التابع لقصد المتكلم. فاللفظُ في تصور الأصولي هو
دليل الحُكم على صحة الفكر أو خطئه؛ إذ اللغة ترجمةٌ لما يجري في الفكر. من
هنا أَخذتْ اللغة عن الأصوليين منحىً علمياً؛ أصبحتْ به وسيلةً لاستنباط
الحكم، تتجه إلى الاصطلاح وتخاطب العقل. والشافعي في وضعه للأصول المعتمدة
في فهم النصوص وتأويلها اعتمد منطق اللغة العربية. وقد أورد السيوطي (911
هـ) في كتابه (صون الكلام عن فن المنطق والكلام) قول حرملة بن يحيى:" سمعتُ
الشافعي يقول: ما جهِلَ الناسُ ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم
إلى لسان أرسطاطاليس (...)، ولم ينزل القرآن ولا أتت السنة إلا على مصطلح
العرب ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال، لا على مصطلح
اليونان، ولكل قوم لغة واصطلاح" (15).


وجاء
الفخر الرازي (606 هـ) فاعتبر " نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة
أرسطاطاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد على علم العروض (...)
فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطاطاليس إلى علم العقل"(16).


وهكذا
يتضح أن المنهج في استنباط الحكم من النص أُسِّسَ على منطق العربية، وابن
خلدون وهو يؤرخ للعلوم في الحضارة الإسلامية أطلق علوم اللسان العربي على
علوم العربية، وجعلها أركاناً أربعة: اللغة والنحو والبيان والأدب. وقرر
أن"معرفتَها ضرورية على أهل الشريعة؛ إذ مأخذ الأحكام الشريعة كلِّها من
الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونَقَلَتُها من الصحابة والتابعين عربٌ،
وشرح مشكلاتهم من لغاتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن
أراد علمَ الشريعة" (17).


وقد
وجد ابن القيم (751 هـ) من الأصوليين " مَن يفهم من الآية حكما أو حكميْن،
ومنهم من يفهم عشرةُ أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على
مجرد الفهم دون سياقه، ودن إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخصُّ من هذا
وألطف ضمُّه إلى نص آخر متعلق به، فيُفهم من اقترانه به قدراً زائداً على
ذلك اللفظ بمفرده، وهذا بابٌ عجيبٌ في فهم القرآن لا ينتبه له إلا النادر
من أهل العلم(18).


واللفظ لدى الأصولي يتطور بناءً على مدلوله وعلى استعمالاته في العُرف والشرع مما يجعل النص منفتحاً على الحياة يسمحُ بالاجتهاد.



خاتمة:



إن
الاحتكام إلى النصيْن المؤسسيْن للإسلام ( القرآن والحديث الشريف) يظل
ثابتا إلى نهاية العالم. منهما تُستمَدُّ الحلولُ لمشكلات الحياة، وما ينشأ
عنها من واقع وأحداث. من فهمهما وتدبرهما ينطلق الاجتهاد. من هنا تظل
العناية بعلوم اللغة العربية من الثوابت في مسار الحضارة الإسلامية. إن
العالم الإسلاميّ أوجد أضخمَ مادة قانونية في الفقه لكل جوانب الحياة
الإنسانية، حينما تَفَهَّمَ النصَّ التشريعيّ ودَقَّقّ في تحديد مدلولات
ألفاظه، مع وعي كامل بطبيعة التطور الدلالي؛ فكان له علم بالعربية
وبأسرارها.


واليوم
تسود القوانين الوضعية في العالم، وبتأخر المسلمين يتأخر فقه المعاملات عن
متابعة ما يجد في حياة الناس. إن العالم يتطور من حولنا بسرعة مذهلة،
ويزيدنا النظام العالمي الجديد استضعافا في الأرض، ويُحكِمُ إقفالَ باب
الاجتهاد عندنا، وتزداد نفوسنا إحباطا ودماراً.


إن
السيادة اليوم في الأرض لا تتأَتَّى بغير البحث العلمي في مجالات المعرفة
الحديثة. والاجتهاد لا يتحقق بغير انفتاح على تطورات العصر ومواكبتها
معرفيا. وأمر اللغة العربية اليوم موكول إلى وضعية العرب والمسلمين سياسيا
واقتصاديا وتقنيا وثقافيا. وكل إصلاح يُهمل علومَ العربية ولا يُدخلها في
معترك الحياة بتطوراتها العلمية يترك باب الاجتهاد موصداً ويحكم على
الحضارة الإسلامية بالجمود. وكلُّ مواكبة لأي عصر بدون العربية تِيهٌ!
وسيرٌ على غير هدى!




[
ملاحظة: نشر هذا المقال بمجلة ( منار الإسلام: إسلامية – ثقافية – شهرية)
أبو ظبي، العدد الرابع، السنة21، ربيع الآخر 1416هـ/ 27 أغسطس 1995م، ص82 –
88 ].




هوامش:



(1)المدخل إلى دراسة البلاغة العربية: د. السيد أحمد خليل – ط1[ بيروت، دار النهضة العربية، 1968]، ص21

(2) تأويل مشكل القرآن: ابن قتيبة (276 هـ)، تحقيق: أحمد صقر – ط2 [ القاهرة، دار التراث، 1973]، ص3

(3) كتاب إيضاح الوقف والابتداء: أبو بكر الأنباري:1/101

(4) ينظر في هذا سبب تأليف كتاب (معاني القرآن) للفراء 207 هـ وكتاب ( مجاز القرآن) لأبي عبيدة 209 هـ.

(5) الرسالة: الشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ص50

(6) نفسه.

(7) صون الكلام عن فن المنطق والكلام: السيوطي(911 هـ)، شرح وتعليق: د. علي سامي النشار – ط1[ القاهرة، مطبعة السعادة، 1947]،ص45

(Cool الحيوان: الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون – ط2 [ القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، د. ت]:5/425

(9) تأويل مشكل القرآن: ابن قتيبة، ص12

(10) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: الطبري (310هـ): 1/13

(11) الصاحبي: أحمد بن فارس (395 هـ)، تحقيق: أحمد صقر – ط1[ القاهرة، مكتبة عيسى البابي الحلبي،1977]، ص50

(12) ينظر:
التصور اللغوي عند الأصوليين: د. السيد أحمد عبد الغفار – ط1 [
الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية،1981] – ومصادر هذا التصور تلتمس في
أمهات كتب الأصول، وخاصة في كتاب المستصفى من علم الأصول لأبي حامد الغزالي
– ط1[ القاهرة، المطبعة الأميرية، 1323 هـ].


(13) الرسالة: الشافعي، ص50

(14) تأويل مشكل القرآن،ص103

(15) صون الكلام عن فن المنطق والكلام: السيوطي، ص45

(16) طبقات الشافعية: تاج الدين السبكي – ط1 [ القاهرة، المطبعة الحسينية، د.ت]:1/100

(17) مقدمة ابن خلدون، تحقيق: علي عبد الواحد وافي – ط3 [ القاهرة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، 1977]:3/1224

(18) أعلام الموقعين: ابن قيم الجوزية – ط1[ القاهرة، إدارة المطبعة المنيرية، د.ت]:1/354

description العلم بالعربية من أسس العقيدة في الإسلام  /       عباس أرحيلة Emptyرد: العلم بالعربية من أسس العقيدة في الإسلام / عباس أرحيلة

more_horiz
البرق اللامع
شيرين كامل

مجلوب مميز ايتها الراقية

تقديري



privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى