الشعر ومهمة الشاعر قراءة في مجموعة) عقارب الذاكرة ( لتحسين عباس
بواسطة: gazwan
بتاريخ : الخميس 07-03-2013 09:46 صباحا
زيد الشهيد
ولد الشعر مع أولِ آهةٍ أطلقها الإنسانُ في مواجهتِه للأشياء ووجودِه إزاء جملةِ الأسئلة التي واجهَها في الوجودِ الماثل ، المليء بالأحاجي والابهامات . ولد الشعرُ ليقول ما ظلَّ عصياً على الفهمِ لدى المخلوقِ الذي وجد نفسه في محيطٍ من المخلوقات التي لا قدرة لها على التحاورِ معه ..
ولد ليُعبرَ عن الخلجات والأحاسيس على اختلاف تنوعها : الفرح منها والبهجة / الانشراح والألم / الاطمئنان والأسى / المواجهة والتقهقر .. وفي كل هذا كان مصدرُ ارتياحٍ بعد انطلاقه من الدواخل الإنسانية وتعبيرهِ عن المواقف .. صار له الشعرُ أداةً ووسيلةً يلجأ إليها الإنسانُ المأزوم ليُفرغَ ما في الروح من لواعجٍ وما يعتريها من هواجس أو تطلعات .. صار (( يمثل اداةً للتعبير عن الانسان في صلته بواقعه ، زمناً ومكاناً ، بطريقة بالغة التأثير)) (1) مثلما هو جهد تعبيري يحتشد بالدلالات الرمزية التي تتفاوت حيوية وفرلدة من شاعر الى آخر)) (2)
وتحسين عباس كشاعرٍ اعتمدَ التدوينَ والإفضاء لم يشُذ عن متوالياتِ الأجيال الشعرية عبر مسيرة الإنسان . فدائما ما يحاوُر الذات سواء في الصمت أو العلن ، لائذاً بظلِّ الشعر ليخفيه عن لظى الأحزان والهموم ، حتى ليغدو هذا اللوذ هياماً يطغي على سلوكه كما يبوح به نص (اغتيال) :
أحاور نفسي في خفاءٍ ،
ويكشفني صمتي ، فألوذ بشعري هائماً للعودة. ص37 وفي نص) موعدٌ ينتظرُه القلب ( يكتب القصيدةَ كردَّةِ فعلٍ لما يعتريه من ارتجاف الأحلام وتصفّح الوحشة ؛ هو الذي يعرف الحب في أحد افضاءات البوح على أنه كائن أثيري / يخرج من القلب والغرائب ، بأشعة لا مرئية ونغمة سمعية ص44 ) . ) ذلك البوح الذي يتردد لديه بين " تفاعيل الصدى " حين " يلوكُها الزمن " . تدوين يلتجىء إليه مُجبراً قصدَ تفريغِ الدواخل من( رائحةِ ظلها ( ظل القصيدة:
قصيدةٌ ترددُها الجدران بين تفاعيل الصدى التي يلوكها الزمن .
اسكبُ أنفاسي في رائحة ظلها ،
فيتخثرُ في قلبي ذكرها المترادف . ص49 وهو الذي يحاور الذات فيعود الى ذلك الطفل العنيد الذي يكمن داخله والذي تتعالى لديه - ككل الاطفال - صفة الأنوية والامتلاك له لا لغيره ، فكانت اللعبة / الحبيبة قيثارة محببة سمتها الغرابة ، وعازفها مسكون بالخوف مما يسكبه اوتارها من سفرٍ وضياع ورحيل في دروب المجهول فهي تسكنه وتتماهى معه . تلاحقه كشبح لا يمكن الفكاك منه..
الأنثى في قلب الشاعر شكل الغزل العذري منه والفاضح نوعا من أنواع الكشف عن دروب الأعماق ، وعبر بما لا يقبل الشك عن أحاسيس لا يمكن لها أن تبقى دفينة في كهوف القلب . كان ذلك يحدث بالاستعانة بشعر له وزنه وقافيته وبحوره فعرفنا من العذريين جميل بثينة ومن الماجنين عمر بن أبي ربيعة . وفي الأدب الحديث وبفعل تغير أسلوب الحياة وقدوم عوامل التحضر ودخول الإنسان في عصر الثورة المعلوماتية تغير التعبير والكتابة ، وتداخلت الأجناس فولد النص في محاكاة المحيط الذي فرض على الشاعر التعامل مع العاطفة بمنظومة حضارية تتبارى فيها اللغة لرسم صورة الانثى بملامح تجسّد ما يأتي به الحلم وما تعرضه فرشة الواقع من تضاريس شعور يسعى لبث البوح القادم من دروب الروح المعتلج .. ارتجفت أحلامي
فأنجبت حبَّها على تضاريسي
عند أول زاجل حمله الاهتمامُ
في أناغيم الأثير كي يخط تفعيلة الشوق
على سلم التنهيد
القصيدة العمودية
تضمنت مجموعة الشاعر نصوصاً من القصيدة العمودية . وهو بهذا يشير الى تاريخ لا يريد التنصل منه والانسلاخ عنه . ولأن الشعر ديوان العرب فإن تحسين عباس يدفعنا - ونحن نقرأ مجموعته - الى يقين ان الشاعر لابد ان ينهل من ارثه الادبي قبل ان يدخل ميداناً جديداً له صلة بالشعر كما هو الحال في الشعر الحر او قصيدة النثر .. ومثلما وضعنا اصبعنا على مقدرته المكينة في كتابة قصيدة النثر او الشعر الحر تمثلت قدرته أيضاً على تقديم الشعر العمودي بمقدرة وتمكن :
صادروا حريّة القلب بضاعه // سرقوها من فؤادي بفضاعه
وأنا في أول العمر شباباً // هل يردّون الهوى إن ضاع ساعه
زمنٌ اعرافـــه جهــــــــــلٌ عقيمٌ // حرَّمَ الحبَّ عليـــنا ببراعــــه
جسدٌ نحن بلا روحٍ نعيش // صوتنا صمتٌ قتيلٌ في صراعه إنه يتوخى التعبير والقول في حالة خاصة من حالات الهيام حين يتوجه بالرجاء إلى حبيبٍ مُفترض استعانةً بالكلمات التي قد تُحيلُه إلى شاعر يستطيع إيصال بوحِه ولواعجِه وما يعتريه من خلجاتٍ تفرضُ وجودَها المهيمن على دواخلِه الراهصة وهو يتعامل مع الماثل الذي نتلمسُ طيفَه ما وراء الكلمات اعتماداً على بحرٍ من بحور الشعر الموزون والمقفى والمسمى ) الرمل) في نص ( سبايا القلق) :
يا حبيبي لا تسافر عن أراجيز الهوى
علني أصبح شاعر أكتبُ الحب على تلك الطلاسم .. ص54 إن تحسين عباس بمجموعته البكر( عقارب الذاكرة ) ظل وفياً للواعجه فاطلقها ، ولمكنونات الروح فكشفها تسطيراً على الورق . وكونها مجموعة بكر فان الصدق يشيع منها كأريج ، والبراءة كبوح لا تنأى عن خط مسار نصوصها . إننا إزاء شاعر يمكن أن نطلق عليه كما اطلق سان جون بيرس يصف الشعر)) الابن الحقيقي للاندهاش)) ))(3). ولما كان طريق الادب طويلاً والافضاء لا ينقطع فان هذا الادب يبقى (( يتحالف في سبله مع الجمال (4) الذي فهمه بيرس ودعا اليه في القصيدة ، وجاهر به في الشعر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علي جعفر العلاق ، في حداثة النص الشعري ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، ص161 ، 1990 (2) نفس المصدر ، ص55 .
(3) سان جون بيرس ، انا باز ، الدار العربية للكتاب ، ترجمة وتقديم علي اللواتي ص130 ، 1985
(4) نفس المصدر ، ص131 ،
بواسطة: gazwan
بتاريخ : الخميس 07-03-2013 09:46 صباحا
زيد الشهيد
ولد الشعر مع أولِ آهةٍ أطلقها الإنسانُ في مواجهتِه للأشياء ووجودِه إزاء جملةِ الأسئلة التي واجهَها في الوجودِ الماثل ، المليء بالأحاجي والابهامات . ولد الشعرُ ليقول ما ظلَّ عصياً على الفهمِ لدى المخلوقِ الذي وجد نفسه في محيطٍ من المخلوقات التي لا قدرة لها على التحاورِ معه ..
ولد ليُعبرَ عن الخلجات والأحاسيس على اختلاف تنوعها : الفرح منها والبهجة / الانشراح والألم / الاطمئنان والأسى / المواجهة والتقهقر .. وفي كل هذا كان مصدرُ ارتياحٍ بعد انطلاقه من الدواخل الإنسانية وتعبيرهِ عن المواقف .. صار له الشعرُ أداةً ووسيلةً يلجأ إليها الإنسانُ المأزوم ليُفرغَ ما في الروح من لواعجٍ وما يعتريها من هواجس أو تطلعات .. صار (( يمثل اداةً للتعبير عن الانسان في صلته بواقعه ، زمناً ومكاناً ، بطريقة بالغة التأثير)) (1) مثلما هو جهد تعبيري يحتشد بالدلالات الرمزية التي تتفاوت حيوية وفرلدة من شاعر الى آخر)) (2)
وتحسين عباس كشاعرٍ اعتمدَ التدوينَ والإفضاء لم يشُذ عن متوالياتِ الأجيال الشعرية عبر مسيرة الإنسان . فدائما ما يحاوُر الذات سواء في الصمت أو العلن ، لائذاً بظلِّ الشعر ليخفيه عن لظى الأحزان والهموم ، حتى ليغدو هذا اللوذ هياماً يطغي على سلوكه كما يبوح به نص (اغتيال) :
أحاور نفسي في خفاءٍ ،
ويكشفني صمتي ، فألوذ بشعري هائماً للعودة. ص37 وفي نص) موعدٌ ينتظرُه القلب ( يكتب القصيدةَ كردَّةِ فعلٍ لما يعتريه من ارتجاف الأحلام وتصفّح الوحشة ؛ هو الذي يعرف الحب في أحد افضاءات البوح على أنه كائن أثيري / يخرج من القلب والغرائب ، بأشعة لا مرئية ونغمة سمعية ص44 ) . ) ذلك البوح الذي يتردد لديه بين " تفاعيل الصدى " حين " يلوكُها الزمن " . تدوين يلتجىء إليه مُجبراً قصدَ تفريغِ الدواخل من( رائحةِ ظلها ( ظل القصيدة:
قصيدةٌ ترددُها الجدران بين تفاعيل الصدى التي يلوكها الزمن .
اسكبُ أنفاسي في رائحة ظلها ،
فيتخثرُ في قلبي ذكرها المترادف . ص49 وهو الذي يحاور الذات فيعود الى ذلك الطفل العنيد الذي يكمن داخله والذي تتعالى لديه - ككل الاطفال - صفة الأنوية والامتلاك له لا لغيره ، فكانت اللعبة / الحبيبة قيثارة محببة سمتها الغرابة ، وعازفها مسكون بالخوف مما يسكبه اوتارها من سفرٍ وضياع ورحيل في دروب المجهول فهي تسكنه وتتماهى معه . تلاحقه كشبح لا يمكن الفكاك منه..
الأنثى في قلب الشاعر شكل الغزل العذري منه والفاضح نوعا من أنواع الكشف عن دروب الأعماق ، وعبر بما لا يقبل الشك عن أحاسيس لا يمكن لها أن تبقى دفينة في كهوف القلب . كان ذلك يحدث بالاستعانة بشعر له وزنه وقافيته وبحوره فعرفنا من العذريين جميل بثينة ومن الماجنين عمر بن أبي ربيعة . وفي الأدب الحديث وبفعل تغير أسلوب الحياة وقدوم عوامل التحضر ودخول الإنسان في عصر الثورة المعلوماتية تغير التعبير والكتابة ، وتداخلت الأجناس فولد النص في محاكاة المحيط الذي فرض على الشاعر التعامل مع العاطفة بمنظومة حضارية تتبارى فيها اللغة لرسم صورة الانثى بملامح تجسّد ما يأتي به الحلم وما تعرضه فرشة الواقع من تضاريس شعور يسعى لبث البوح القادم من دروب الروح المعتلج .. ارتجفت أحلامي
فأنجبت حبَّها على تضاريسي
عند أول زاجل حمله الاهتمامُ
في أناغيم الأثير كي يخط تفعيلة الشوق
على سلم التنهيد
القصيدة العمودية
تضمنت مجموعة الشاعر نصوصاً من القصيدة العمودية . وهو بهذا يشير الى تاريخ لا يريد التنصل منه والانسلاخ عنه . ولأن الشعر ديوان العرب فإن تحسين عباس يدفعنا - ونحن نقرأ مجموعته - الى يقين ان الشاعر لابد ان ينهل من ارثه الادبي قبل ان يدخل ميداناً جديداً له صلة بالشعر كما هو الحال في الشعر الحر او قصيدة النثر .. ومثلما وضعنا اصبعنا على مقدرته المكينة في كتابة قصيدة النثر او الشعر الحر تمثلت قدرته أيضاً على تقديم الشعر العمودي بمقدرة وتمكن :
صادروا حريّة القلب بضاعه // سرقوها من فؤادي بفضاعه
وأنا في أول العمر شباباً // هل يردّون الهوى إن ضاع ساعه
زمنٌ اعرافـــه جهــــــــــلٌ عقيمٌ // حرَّمَ الحبَّ عليـــنا ببراعــــه
جسدٌ نحن بلا روحٍ نعيش // صوتنا صمتٌ قتيلٌ في صراعه إنه يتوخى التعبير والقول في حالة خاصة من حالات الهيام حين يتوجه بالرجاء إلى حبيبٍ مُفترض استعانةً بالكلمات التي قد تُحيلُه إلى شاعر يستطيع إيصال بوحِه ولواعجِه وما يعتريه من خلجاتٍ تفرضُ وجودَها المهيمن على دواخلِه الراهصة وهو يتعامل مع الماثل الذي نتلمسُ طيفَه ما وراء الكلمات اعتماداً على بحرٍ من بحور الشعر الموزون والمقفى والمسمى ) الرمل) في نص ( سبايا القلق) :
يا حبيبي لا تسافر عن أراجيز الهوى
علني أصبح شاعر أكتبُ الحب على تلك الطلاسم .. ص54 إن تحسين عباس بمجموعته البكر( عقارب الذاكرة ) ظل وفياً للواعجه فاطلقها ، ولمكنونات الروح فكشفها تسطيراً على الورق . وكونها مجموعة بكر فان الصدق يشيع منها كأريج ، والبراءة كبوح لا تنأى عن خط مسار نصوصها . إننا إزاء شاعر يمكن أن نطلق عليه كما اطلق سان جون بيرس يصف الشعر)) الابن الحقيقي للاندهاش)) ))(3). ولما كان طريق الادب طويلاً والافضاء لا ينقطع فان هذا الادب يبقى (( يتحالف في سبله مع الجمال (4) الذي فهمه بيرس ودعا اليه في القصيدة ، وجاهر به في الشعر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علي جعفر العلاق ، في حداثة النص الشعري ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، ص161 ، 1990 (2) نفس المصدر ، ص55 .
(3) سان جون بيرس ، انا باز ، الدار العربية للكتاب ، ترجمة وتقديم علي اللواتي ص130 ، 1985
(4) نفس المصدر ، ص131 ،