البيان الذي اصطلح عليه أرباب البلاغة، وهو
أحد أقسام علم البلاغة الذي يطلق على معرفة الحقيقة والمجاز والتشبيه والاستعارة
والكناية، فإن من المجاز ما هو لغوي كالصلاة، استعملها الشارع في هذه الهيئة
المخصوصة المشتملة على القيام والقراءة والركوع والسجود والذكر والسلام والدعاء.
وهي في أصل اللغة إنما تطلق على الدعاء الذي هو جزء هذه الهيئة فسماها باسم جزئها،
فقد توقفت معرفة هذا المجاز على حقيقته، وتلك الحقيقة لا تعرف إلا بالنقل لا
بالعقل، والمتوقف على المتوقف على معرفة الشي متوقف على ذلك الشيء.



الاستعارة والكناية


وأما الاستعارة، فاختلف علماء البيان، هل هي
مجاز لغوي أو عقلي. فذهب الأكثرون إلى أنها مجاز لغوي خلافا لصاحب المفتاح فإنه
ذهب إلى أنها عقلية. ودليل الأكثرين أنك إذا قلت: عندي أسد شاكي السلاح، وأنت تريد
الرجل الشجاع، كان لفظ الأسد عند التحقيق مستعملاً في غير ما وضع له، لأنك تفهم
أنه عنده رجل شبهه بالأسد. وإنما حذف أداة التشبيه مبالغة، والألف والسين والدال
فهم معناها متوقف على النقل.



وأما الكتابة فمن أقسامها قسم يتوقف على
النقل. كقول الشاعر:



أخو لخم أعارك منه ثوباً ... هنيئاً بالقميص المستجد


أراد أبوك أمك حين زفت ... فلم يوجد لأمك بنت سعد


وقد ألقى كساء أبي عبيد ... عليك فصرت أكسى أهل نجد


أراني الله عينك في الجعبى ... وعينك عين بشار بن برد


فإن الشاعر أراد بأخي لخم جذاما، وببنت سعد
عذرة، وبأبي عبيد الأبرص، وبعين بشار العمى.



وقول محمد بن عبدون في خمر عادت خلا:


ألا في سبيل اللّهو كأس مدامةٍ ... أتتنا بطعم عهده غير ثابت


حكت بنت بسطام بن قيسٍ صبيحةً ... وراحت كجسم الشّنفري بعد ثابت


أراد ببنت بسطام صهباء، وبجسم الشنفري قوله:


فاسقنيها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي بعد خلي لخلّ


ووقول الآخر:


ويدعي الشرب في كأس وفي قدح ... وأم عنترة العبسي تكفيه


أي تكفيه زبيبة لأنها اسم أم عنترة العبسي.


ولولا النقل لما علم من هذه الكنايات شيء،
وليس للعقل هنا مجال. فقد اتضح أن بعض البيان نقلي.



وإن أراد بالبين علم المعاني الذي هو ما
يعرف به تتبع خواص تراكيب الكلم، من أحوال الإسناد الخبري، وأحوال المسند إليه،
وأحوال المسند، والفصل والوصل، والإيجاز والإطناب وأحوال الطلب، فأكثر ذلك تتوقف
معرفته على النقل، إذ المسند والمسند إليه هما المبتدا والخبر، وأحوال كل منهما
متنوعة، من تقديم وتأخير لكل منهما وتعريفهما وتنكيرهما، وحذف هذا تارة وذلك أخرى،
ومجيء المسند إليه تارة اسماً وتارة فعلاً إما ماضياً وإما مضارعاً. ولولا خوف
الإطالة لضربت أمثلة ذلك، ولكنها معلومة من النحو. وجميع ذلك الأصل فيه ما ورد به
النقل.



وهذا هو جل علم المعاني. فقد ثبت أن البيان
ليس بعقلي كما ادعاه ابن الأثير، بل بعضه عقلي وبعضه نقلي. على أنه قد أورد الناس
على علم المعاني فقالوا: إن كان بديهيا لم يحتج إلى تعلمه وتدوينه، وذكره مستغنى
عنه، وإن كان كسبيا افتقر إلى علم آخر، ودار أو تسلسل. وما أفضى إلى ذلك فهو باطل.



وأجيب بأنه ليس الكل بديهياً فيلزم ذلك. بل
البعض بديهي يدرك بالذوق السليم والذهن المستقيم، والبعض كسبي يؤخذ بالنقل.



ولما كان الناس على ثلاث طبقات: الأولى
أصحاب الطبع السليم وهم العرب الخلص الذين يوردون الكلام بسجيتهم موارده، فهؤلاء
مستغنون عن تعلمه لأنه لهم جبلة وفطرة. والطبقة الثانية الجفاة أصحاب الفظاظة
والطباع النافرة الذين لا شعور لهم بمعاني الكلام، ولا استعداد لهم لتحصيل ذلك،
فهؤلاء أيضاً مستغنون عن تعمله، فإنه لا فائدة لهم فيه. والطبقة الثالثة هم
المتوسطون، بين هؤلاء وبين هؤلاء، قد يصيبون تارة في أفكارهم وقد يخطئون. فهؤلاء
هم الذين وضعت لهم هذه الآلة. فإذا راعوا قوانينها المدونة، وحدودها المقررة،
كانوا أبعد عن الخطأ. وحينئذ لا تستغني هذه الطبقة عن تعلم هذه الآلة.