في مقابلة أجرتها معه صحيفة "كراسنايا زفيزدا" يوم 1 أغسطس/آب يرى مدير معهد البحوث الاستراتيجية ليونيد ريشيتنيكوف أن ما يجري اليوم في سورية موجه ضد روسيا أيضا. ويضيف الخبير أن هذا التوجه يحمل طابعا متعدد الأطياف وهذا النزاع يؤثر سلبا على التعاون الاقتصادي والعسكري التقني بين روسيا وسورية. أما في حال إطاحة نظام بشار الأسد بالقوة فإن روسيا لن تفقد حليفا في المنطقة وحسب بل وستكون مضطرة للتخلي عن العديد من مواقعها في الشرق الأوسط الذي يعتبر بالنسبة لها عقدة بالغة الأهمية لتقاطع طرق المواصلات العالمية، وسوقا واسعة لتصريف السلع. وستضطر روسيا عندئذ لإغلاق مركز التأمين المادي والفني في ميناء طرطوس السوري ، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض مستوى حضورها في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، وسوق السلاح الإقليمي. ولن يقتصر الأمر على ذلك ، فقد ترددت في وسائل الإعلام الجماهيري أخبار عن خطط لمد أنابيب عبر الأرضي السورية لنقل الغاز من قطر إلى أوروبا. وهذا ما سيجعل خط "السيل الجنوبي" الذي تعمل روسيا على تنفيذه منذ زمن بعيد أمرا نافلا ، وسوف يقلل أيضا من أهمية "السيل الشمالي" بالنسبة لأوروبا.

وكثيرا ما يدور الحديث عن أن الوقائع الجيوسياسية التي تتشكل في الشرق الأوسط تؤثر تأثيرا مباشرا في الوضع بروسيا ذاتها. ويشير الخبراء على وجه الخصوص إلى أن سورية تشهد تزايد راديكالية جزء من الأمة الإسلامية واشتداد نشاط أنصار "الإخوان المسلمين" الذين حددوا نغمة الثورات العربية في كل من مصر وليبيا وتونس، والذين يزرع شركاؤهم في الرأي العنف في سورية اليوم. وتفيد بعض المعلومات في الآونة الأخيرة أن تنظيمات أنشأها مبعوثو "الإخوان المسلمين" قد تم اكتشافها في 49 منطقة من روسيا ، وكذلك في بلدان رابطة الدول المستقلة. أما الهدف الرئيس لهذه التنظيمات في روسيا فهو تأجيج النزعات الانفصالية في " المناطق الإسلامية" وحشو رؤوس العامة بأفكار تدعو إلى إقامة كيانات من النمط الإسلامي ضمن ما يسمى "الخلافة الإسلامية الكبرى". ويقدم مبعوثو "الإخوان المسلمين" دعما إيديولوجيا وعسكريا وماليا للمسلحين في شمال القوقاز. ولا بد من الإشارة إيضا إلى أن هذه العمليات كافة تفضي إلى إخراج روسيا من الجنوب الذي وجدت فيه منذ بضعة قرون سعيا منها للحصول على منفذ إلى البحار الجنوبية. وبصريح العبارة لم يبق لروسيا من الأراضي الجنوبية سوى نتوء يبدو كشبه جزيرة تضم أراضي شمال القوقاز، بينما ميناء نوفوروسيسيك هو النافذة البحرية الوحيدة في جنوب البلاد.

وبالرغم من أن أنقرة معنية بالتغلغل في شمال القوقاز ومناطق روسيا الإسلامية الأخرى، غير أنها تفكر مليا بالثمن الذي قد تدفعه مقابل ذلك. إن حل النزاع السوري بالقوة سيعني تصاعد خطر المشكلة الكردية التي قد تفاقم الوضع في تركيا. ولذلك فإن أنقرة ، ومنذ البداية ، لم تكن لها مصلحة بسقوط نظام الأسد، ووقفت ضد التدخل العسكري في سورية. وهذا ما أكده ، بالمناسبة ، أثناء وجوده في موسكو رئيس الوزراء التركي رجب طيب أوردوغان. ومع ذلك يتردد في وسائل الإعلام الجماهيري غير قليل من الأخبار عن تحضيرات تجري على الأراضي التركية للتدخل العسكري في النزاع السوري. وهذا الموقف المتناقض لأنقرة يمكن تفسيره بخصوصية علاقتها بطهران. فمن جهة تعتبر ايران احدى الدول العشرة الأهم في الشراكة الاقتصادية - التجارية لتركيا. ففي العام الماضي بلغ مستوى التبادل التجاري بين البلدين اكثر من 10 مليار دولار. ومن جهة أخرى، جاهدت تركيا في عهد أردوغان لنيل الريادة في العالم الاسلامي، حيث تقف لها بالمرصاد ايران كبلد له من المقدرات ما يمكنه من السعي للزعامة الاقليمية.

ويرى خبراء المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية، أن صراعاً بين الحضارات يقف خلف الثورات العربية ، وهذا الصراع بين الحضارات يزيح أكثر فأكثر ، أشكال الصراع التقليدية، التي تنشأ من تناقض مصالح الدول القومية. ويبرز اليوم بوضوح التناقض القائم بين النموذجين الأنغلوسكسوني و الشرق أوسطي، حيث يحتفظ كل منهما بقيمه، ورؤيته الخاصة للعالم.

إن القوى العظمى الطامحة للهيمنة الكونية تفضل خلق أزمات دولية يمكن السيطرة عليها، واستغلالها لتحقيق أهدافها. وفي هذا السياق يبدو المشهد السوري مجرد حلقة في هذه اللعبة الجيوستراتيجية التي تدور في المنطقة، والتي يتوقف عليها تطور العملية برمتها. ويعتقد خبراء المعهد الروسي المذكور، أن سورية ستلقى المصير نفسه الذي لقيه العراق بعد العدوان الأمريكي ، حيث انقسم عملياً إلى عدة دويلات. ولنأخذ مثالا على ذلك المناطق الكردية في سورية حيث عزلت منذ اليوم بشتى الحواجز التي تفصلها عن بقية أراض البلاد، وبإمكانها أن تعلن استقلالها في اية لحظة تشاء.

المصدر : صحيفة "كراسنايا زفيزدا" ، الكاتب: ليونيد ريشتنيكوف