برق الضاد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

برق الضاددخول

منتدى ادبي شامل يعني بفروع الادب العربي


descriptionالبحث عن نخبة داخل النخبة Emptyالبحث عن نخبة داخل النخبة

more_horiz

بسم الله الرحمن الرحيم


البحث عن نخبة داخل النخبة
عالم سبيط النيلي

يبدو أن لكل جيلٍ غرورٌ كامنٌ يجعله يعتقد انه فتح أبواباً من المعرفة لم يستطع الأوائلُ الولوجَ في مثلها، واكثر ما يكون هذا الشعور لدى النخبة بمختلف فروعهم العلمية والأدبية والإنسانية.

وأذا كان هذا الشعور ملائماً للطبيعة التطورية لهذا الكائن وسمةً حسنةً من سمات الرواد في كل عصرٍ، فهو علامةٌ على (الجمود) من جهة أخرى، حينما تكون الأبواب الجديدة مجرد بنىً فوقيةٍ قائمةٍ على نفس المبادئ القديمة. ومن شأن ذلك أن يجعل (العقل الجماعي) الذي يعي الأشياء بطريقة خاطئة أحياناً، والذي تتخبَّط فيه فصيلةٌ كاملة من هذا الخلق كما هو مقرر في علم الاجتماع.. من شأن هذا العقل أن تنتقل عدواه إلى النخبة نفسها.

وبدلاً من الجمود على مفاهيم خاطئة كما هو الحال عند العوام، من الممكن جداً رؤية مفاهيم أخرى (راقية) ، جمدت عليها النخبة دهراً طويلاً من غير أن تلاحظَ أن التناقضات فيها أكبرَ وأشدَّ خطورة من تناقضات العوام، فيغطي شعورها بأنها من النخبة أو هي النخبة على شعورها بتلك التناقضات.
ويكون الانتباه إلى هذا الأمر أقلَّ احتمالاً حينما يكون واجب النخبة الرصد والنقد كما في نخبة النقد الأدبي مثلاً، حيث يكون واجب (نقد النقد) في أحسن الأحوال هو التنبيه إلى الفوارق أو الأخطاء في أساليب النقد لا إلى أسس النقد نفسه. فهذه النخبة مثلاً تختار النص بشرط فئويٍّ أو بأسلوبٍ انتقائيٍّ يضمن لها عدم التصادم مع ما تشعر بأنه من اختصاص نخبة أخرى – كما في النصوص التي لها صلةٌ بالفكر الديني أو الغيبيات أو العقائد، مع أن تلك النصوص هي نصوصٌ أدبيةٌ من الطراز الراقي ضمن المعايير النقدية. فهي أذن تهجر النصوص التي تبدو أنها غير أدبية هجراناً مؤكداً بالرغم من أن الناقد بالمعنى الأدقّ حاكمٌ على كل إبداعٍ أو نشاطٍ إنسانيٍّ ذي تأثيرٍ معيَّنٍ على الخَلْقِ محدَّدٍ بنصٍّ. وهذا يقودنا إلى أنَّ المعايير التي تحدِّدُ ما هو النص الأدبي هي نفسها بجاجةٍ إلى المراجعة.

وهناك أمر آخرٌ أكثر خطورة كأن يتحوَّل العمل النقدي كما في هذا المثال إلى أن يكون هدفاً بحدِّ ذاته. وإذا كان الأمر كذلك فسرعان ما يتحوَّل الأدب نفسه عن وجهته ليكون غايةً في ذاته هو الأخر، وذلك للعلاقة (الترقبية) بينهما التي أعني بها أن المبدعَ يترقَّب ردوَدَ الفعل، والناقدَ يترقَّب منه التغيُّر، وهي أحسن أحوال التأثير المتبادل بينهما.

وإذا اجتمع الأمران – أي إذا كان كلٌّ منهما غايةً في ذاته انفصمت العلاقة (الترقبية) وحدث ضياعٌ من الجهتين، والذي قد يستمر حقبةً طويلةً قبل أن يفيق أحدٌ من سباته، ويعلنَ أن كلَّ ما قد قيل يُعَدُّ إسرافاً في القراطيس لا غير.
إنَّ الفكرة التي يطرحها هذا الموجزُ للبحث تتلخَّصُ في السؤال الآتي:
هل إنَّ العالم الحالي يروق لك؟
وإذا كان الجواب: نعم.. فلتترك أذن الحديث عن المعاناة والتغيُّر، ومن ثمَّ الإبداع والنقد.
وإن كان الجواب:لا.. فلتبحث إذن عن عالمٍ جديدٍ، ولكن بشرط أن تكون أنت جديداً أو في أسوا الأحوال مستعداً للتجدُّد كلما اقتضت ضرورةُ العالم الجديد ذلك.

يتبع..

descriptionالبحث عن نخبة داخل النخبة Emptyرد: البحث عن نخبة داخل النخبة

more_horiz
عبودية الانتماء

إن السبب الكامن وراء معارضة الناس في كل عصر لما عصر لما جديد هو سبب نفسي لأنَّ من شان التجديد أن يفصم عُرى الانتماء الموهوم لديهم.

إن المرء يكره الوحدة ويخشاها، بل ويخافها ولذلك فهو يحبُّ الانتماء لأنه يمنحه شعوراً بالأمن والأمان والقوة وإن كان هو شعوراً موهوماً. وحينما تتعدد الانتماءات ـ من الأسرة والمدينة والقوم والدين والاختصاص وفئة العمل … إلى آخره ـ، فإنَّ كلَّ واحد منها يسدُّ ثغرة ما في الانتماء الآمن يتسرَّبُ منها الضعفُ.. ولو قُدِّرَ للمرء أن يمتلك انتماءً واحداً شديد العزَّة والمنعة لاستغنى عن هذا التعـدُّد أو ضعفت لديه قوة الشعور بضرورته، بيد أنه لا يجد مثل هذا الانتماء.

وحينما تُخبرُ المرء أنَّ انتماءً له معيناً لا حقيقة له، وأنه مجرد وهمٍ، وتقوم بتزييف حقيقته وجود هذا الانتماء أو إظهار وهنه، فإنَّك تحطم واحدةً من قوى الانتماء التي يرتكز عليها.. ويصعب عليه بطبيعة الحال الإقرار بصحة قولك ولو مع التمهيد النفسي بوجود البديل الأقوى، ذلك لأنه حتى في هذه الحالة يتردَّدُ في الإقرار بأنَّ ما بذلَهُ من مشاعرٍ أو أتعابٍ لهذا الانتماء قد ذهبت هدراً. وأذن فهو اكثر صدوداً وإعراضاً حينما لا يتوفر البديل.

تلك مسألةٌ لا يسلم منها إلاَّ نخبة أخرى داخل هذه النخبة.. هي فيهم أقلُّ عدداً ونسبةً من النخبة إلى العوام.

الطريقة التي اتَّبعتها تلك النخبة النادرة جداً للخلاص من الانتماء الموهوم هي إنها اعتبرت العبودية للانتماء أسوأ من نظام الرق . فإنَّ سيداً واحداً مسلَّطاً على الجسد في هذا النظام أهون بما لا يقاس من سادةٍ كثيرين وهم (شركاء متشاكسون) كما في التعبير القرآني، لكلّ واحدٍ منهم قواعدُهُ الخاصةُ، وأهواؤه المتسلِّطةُ على الحس والفكر والشعور.

تلخَّصت طريقة النخبة النادرة بعبارةٍ واحدةٍ هي: (الكفر بهؤلاء الشركاء). وكان ذلك عندهم يعني أن (الحرية) التي لا تؤخذ إلاَّ بالسيف وتُعطى للغير في المفهوم العام هي في الواقع بمعادلةٍ معكوسةٍ. فهي تُعطى أولاً للنفس سَلْمَاً، ثم يُمنَحُ جزءٌ منها للآخرين بالقوة.

بهذه الطريقة حرَّرَ (النخبة النادرة) أنفسهم من رقبة الاستعباد لأي انتماءٍ. وكان هذا النوع من التحرُّر والانتماء إلى هذه الفكرة هو انتماؤهم الوحيد. وقد جعلهم ذلك يشعرون بالقوة والأمان بصورة لا تقاس بما يشعر بهما غيرهم. واصبح حكمهم على الأشياء مختلفاً جداً، وتعاظمت نفوسهم بصورةٍ فعليةٍ بحيث أنَّهم لم يحتاجوا إلى تعظيمٍ مفتَعَلٍ للـ (أنا). والضريبة التي دفعوها بالمقابل (وهي شعورهم بالغربة) كانت ضئيلةً جداً مقارنةً بغربة النخبة. فإنَّ غربة النخبة هي غربةٌ قاتلةٌ للنفوس، أو مميتةٌ لها موتاً بطيئاً. أما غربة هؤلاء فهي من نوع آخر، فهي تشبه غربة الرجل الكهل المتَّصف بالحكمة حينما يسافر مع مجموعة من الصبيان. فأقصى ما يلاقيه هو مشاكسة بعضهم للبعض الآخر والتي تدفعه للغضب خلال انتظاره الوصول إلى المحطة، حيث سيلتقي أمثاله من الحكماء.

ويظهر من ذلك إن الحصول على الحرية لن يتمَّ في الخارج ونحن نحارب الحرية في داخل نفوسنا.

إنَّ معادلة الحرية طريفةٌ جداً، وغريبةٌ عن مفاهيمنا كل الغرابة. فحينما يحقِّقُ المرء تحرير نفسه من الداخل، سيكتشف أن الحرية قد تحقَّقت له في الخارج أيضاً. لكنها تكون قد تحققت له وحده.. فينطلق بعزم أكيد لتحرير الآخرين مؤكِّداً على ضرورة تغيير المفاهيم التي آذنت بتحكُّم البعض بمصير الحرية قبل تغيير شخوص ورموز هذا البعض، لأنَّ بقاء المفاهيم يعني بقاء الشخوص فلا فائدة من تغييرهم.

بهذه المعادلة أيضاً أمكن فهم قرار بعض هذه النخبة القاضي برفض استلام إدارة التغيير عند سنوح الفرصة بالرغم من انَّهم في طليعة الداعين اليه، ذلك لأنَّ المفاهيم باقيةٌ، فقبولُهم الحكم يعني قبولهم أن يكونوا شيئاً مفروضاً على معادلة الواقع فرضاً.


يتبع..

descriptionالبحث عن نخبة داخل النخبة Emptyرد: البحث عن نخبة داخل النخبة

more_horiz
حوار النفس



مرَّت الآن ثلاثون سنة. كنت فيها تتَّبعُ خطوات غيرك لأنَّك تظنُّ أنَّك لا تقدرُ على أن تخطُوَ بمفردك.

وسألت نفسَكَ: أما آن لك أن تتحرَّرَ فعلاً؟.. أن تعطي لنفسك كنزاً هو بجوارِها وبها، ومكتوبٌ بإسمها، وهو حقُّها وحدُها حرمْتُها منه سنينَ طويلةً؟

ونادى صوت أخرى: إذا لن تنتمِ لشيءٍ فسيكون مثْلُك مثلُ الحجارة!

واستطعت أن تُسكتَه بقولك: سأجرٍِّبُ الحالين لأرَ في أيٍّ منها أكونُ حجارةً بالفعل، وذلك أهون الحقوق التي عليَّ لنفسي.

وسألْتَ ثانيةً: وهل تستمتعُ فعلاُ وأنت تشاهدُ مباراةً لكرة القدم من دون أدنى شعورٍ بغلبة أحد الفريقين؟

وقبل ذلك: هل أنت راغب في أن تتحرَّر إلى هذا الحد؟

أجبتَ: نعم!

وهمس صوت في أذنك: جرّب أذن..، فلعل متعتك بمشاهدة اللعبة ستكون أعظمَ. فإنَّ من شأن الفريق الذي تؤيِّدُ أن يشعرَك بالإحباط عند هزيمته فتضطرَّ إلى اختيار فريقٍ آخرٍ، فتحقُد على من كنت تؤيِّدُ، وتؤيِّد من كنت عليه تحقدُ.. وانتماؤك الشديد يجعلك تقاتل بهمجيةٍ داخل الملعب تكون أحياناً مقاتلةُ الوحوش أكثر رقياً منها، لأنها تتقاتل من أجل شيءٍ حقيقيٍّ، وصراعك مع الفريق الأخر مجرَّد خدعةٍ ووهمٍ.

جرّب.. فلعلك تنتصر على الفريقين كلاهما من غير قتالٍ بدلاً من أن تستجدي جزءً ضئيلاً من انتصار أحدهما على الأخر بمراهنةٍ حقيرةٍ لتحسبه انتصاراً لك. جرّب... ولا تجعل حظَّك وعقلك وقلبك رهنَ كرةٍ تتقاذفها الأقدامُ!.

يتبــــع

descriptionالبحث عن نخبة داخل النخبة Emptyرد: البحث عن نخبة داخل النخبة

more_horiz

منطقٌ خاصٌّ جداً بلومِ النفس


أنت من ثلاثينَ سنةٍ عُشْتَ فيها جباراً رغم اعترافِ الجميع بتواضِعِك وسموِّ أخلاقِك…!

لأنَّك تفكِّرُ في أن تجعل الناس كلَّهم يفكرون بطريقتك.. وتشتهي أن تحملهم حملاً على ذلك لو قدرت!

والإلهُ نفسُهُ لم يفعل فعْلَكَ.. بدليلِ أنَّه لو شاء أن يُحْمِلَ الخلْقَ كلَّهم على أمرٍ لَفَعَل. فلماذا لا يفعل مع أنَّ ما يحملهم عليه هو الحقُّ، ومع أنَّه جبَّارٌ حقيقيٌّ؟

ذلك لأنه لا يَسلِبُ ما وَهَبَ!

فقد وَهَبَ الحرِّيةَ وأراد لها أن تبقى.. فبها وحدِها يقرِّرُ المرءُ مصيرَه. وإذا كان يُحاسَبُ فيما بعد ويعذَّبُ، فبها يحاسَبُ ويعذَّبُ.. أما أنت فتريدُ سَلْبَ ما لم تُهَبْ، والتنازلَ عمَّا وُهِبْتَ!. فشتَّان ما بين فعلك وفعله رغم ادِّعاءك بأنه مَثَلُكَ الأعلى. فها أنت تَهِبُ للآخرين حرِّيتَهم من حيث تَسلبُ حرَّيةَ نفسِك، ثمَّ تعود لتهبَها لنفسك من حيث تسلبُها عن غيرك. فأنت في دوَّامةٍ مستديمةٍ وخدعةٍ مستمرَّةٍ. كلُّ ذلك لأنَّك اتَّبعْتَ البعضَ، وكفرتَ بالبعض الآخر. ومثلما يقول ﮔامو: (إذا لم تعبد الله فإنَّك ستعبدُ غيرَهُ شئتَ أم أبيت، لأنَّك لا تستطيع أن تعيش من غير ربٍّ!).

لكن كامو لا يدري أنَّ الأمرَ كلَّه في هذا الفصل.. وأنت الآن تدري أنَّه من المرجَّح أن تَعْبُدَ البعضَ، وتكفُرَ بالبعض الآخر ويكونُ الربُّ الحقيقيُّ في إحدى المجموعتين.

أعلمُ أنَّك كنت تعنِّفُ أولئك الذين يريدون فرضَ آراءِهم.. أعلمُ أنَّك تُظْهِرُ نفسَكَ محامياً عن حرِّية الرأي.. وأعلمُ أنَّك حينما تعرِضُ آراءَكَ التي تمسَّكتَ بها بشدَّةٍ، كنت تعرضُها على أنَّها مجرَّدُ خياراتٍ مطروحةٍ أمام السامعِ..

كلُّ ذلك أعلمُهُ، بيد أنَّك طاغيةٌ رغم ذلك، لأنَّك لم تنتخِبْ من الآراء أصدَقَها، ومن الأقوال أحسنَهَا، ولا تغضبُ حينما تَضيعُ الحقيقةُ مع (حرية الرأي)، ولا حينما تَضيعُ الحرِّيةُ بمجاملةِ الآراءِ المتناقضةِ. فأنت تمثِّلُ هذا الدورَ تمثيلاً لتُظْهِرَ نفسَكَ ديمقراطياً. أنت في الواقع جلاَّدٌ ديمقراطيُّ يَقِفُ على مذبح الحرِّيةِ تارَّةً، ومذبح الحقيقةِ تارَّةً أخرى، وينادي بهما سويةً.

descriptionالبحث عن نخبة داخل النخبة Emptyرد: البحث عن نخبة داخل النخبة

more_horiz
قصتي مع القرآن



كنت قد تعلَّقتُ بهذا الكتاب منذ الطفولة وحتى الأعوام الأخيرة، أتلو آياتَه مع نفسي وأحفظ الكثيرَ من مقاطعها.. وكان يسمو على كلِّ كلامٍ آخر تسمعُه أذني. وقد طغى على ولعي بالشعر فأضْعَفَ هذا الجانبَ أو كاد يقضي عليه.

وكان هناك سؤالٌ ظهر في الطفولة أذكُرُ زمانَه ومكانَه جيداً. وكنت وحدي في أرضٍ أرعى غنماً، وفي العطلة كنت أحمل كالعادة كتاباً أقرأُهُ تقليداً لأخي الأكبر قارئِ الكتب على أمل أن أجدَ فيه أشياءً مَّما كان يحكيها، وأحمل كذلك مصحفاً صغيراً لإشباع نهمي من قصار وأواسط السور حينما يعييني فهمُ شيءٍ من ذلك الكتاب. كنت أعجب أن يكون القرآن الأقدم أسلوباً أوضح وأكثر جمالاً من كُتُبٍ لا زال أصحابها أحياءَ.

يومها، وبعد قراءة إحدى السور مرَّاتٍ عديدةً بصوتٍ عالٍ يسمح به خلو الأرض الفسيحة من الناس متنغماً بها بنغماتٍ عديدةٍ بحسب ما اشتهيه، شعرتُ شعوراً قوياً بأنَّ هذا الكلام لا يمكن أن يكون إلاَّ كلام الخالق حقَّاً.

وعندئذٍ أدهشني أمرٌ فكَّرتُ فيه طويلاً بلا جدوى.

فقد وضعتُ أمام نفسي سؤالاً عددتُهُ وجيهاً حينها.. ولكنه لم يختفِ من حياتي بالمرَّة كما سترى. السؤال هو: (إذا كان هذا الكلام هو كلام الإله الذي خلق العالمَ فلماذا لا يأبه به الخَلْقُ ولا يمنحه الاهتمام اللازم؟)!.

ولا يمكن بالطبع فَهْمُ أهميةِ هذا السؤال إلاَّ بتصورٍ محدَّدٍ خلاصتُهُ: إنَّ هذا العالم لم يكنْ، فأوجده الخالقُ. ثم بعد ذلك تكلَّمَ الخالقُ.. فيُفترضُ أنَّ هذه الكائنات تنصِتُ إلى هذا الكلام وتفهمُ ما فيه، لأنَّه من المؤكد أنَّ هذا الكلام غايتُهُ الإجابةُ على كلِّ سؤالٍ، وحلُّ كلِّ معضلةٍ، وقضاءُ كلِّ حاجةٍ.. وإلاَّ فلن يكونَ كلامُ الإلهِ مختلفاً بشيءٍ عن أيِّ كلامٍ للواعظين والناصحين وما أكثرهم!. فالفارقُ بينه وبين أيِّ كلامٍ آخرٍ هو كالفارق بين الخالق والمخلوق. وإن لم يقدِرْ الخالقُ على وضْعِ كلامٍ له هذه الصفةُ والقُدُراتُ، فهو إذن عاجزٌ، بل غيرُ ذكيٍّ، إذ الأولى أنْ لا يتكلَّمَ أصلاً خشيةَ أن يُقارَنَ بالمخلوقين من خلال التشابه بين كلامه وكلامهم .

أتكون فيه تلك القُدُراتُ والناس لا يعلمون، أم أنَّهم لا يفكِّرون بالأمر بطريقتي، ولا يحسبون أن التشابه بين الكلامين معناه سقوط صفة الألوهية، أم أنَّهم يشكُّون في كونه كلام الخالق، أم أنَّهم درسوه بهذا المعنى فما وجدوه يحِلُّ لهم مشكلةً حقيقيةً، أو يجيبهم على معضلةٍ، أو يأتي برزقٍ، أو يمنع من كَدٍّ وتعب؟!!.

وسألت نفسي ـ إذ بالغت عنزة من عنيزاتي في وقاحتها.. وهي تقطعُ عليَّ تأملاتي ـ: (كيف كان النبي (ص) يأمر الحيوانات فتطيعه حسب ما يقولون؟، ولماذا انفرد هو بهذه القدرة دوننا؟، بل لماذا أظهرها وتركنا نعاني من إزعاج العنيزات الوقحات؟)!!

رأيتُ في تلك اللحظة رجلاً جاء مسرعاً من بعيدٍ وأنهمك في عمله! وقلت في نفسي انه بالتأكيد لا يفكر بما أفكر فيه.. ولأنه انهمك في عمله برغبةٍ شديدةٍ، ولا أظنُّهُ يرى أيَّ احتمالٍ لتحقيق مراده بطريقٍ آخر.

افترضتُ كإجابةٍ مؤقَّتةٍ أن منافع هذا الكتاب هي كذلك وليست كذلك، حلاًّ للأشكال وجمعاً للمتناقصات. فهو كذلك حينما تكون تلك هي النتيجة النهائية، فهو يحقِّقُها ولكن في العالم الآخر.

وأما هنا فهو كتابٌ يدلُّ على الطريقة الصحيحة التي تؤدّي إلى الحصول على جنة ذلك العالم.

شعرتُ بأنَّ تلك الإجابة تؤدِّي إلى التناقض مع مقدماتي كلِّها. فقد رجع الأمرُ إلى ما كان عليه، وهو إنَّ هذا الكتاب لا يحلُّ شيئاً الآن، ولا يختلف بالتالي عن كلام المخلوق. وشعرتُ أيضاً أنَّ جنَّةَ العالمِ الآخرِ ليست من نتائجه المباشرة، وهذا نقيض ما أردتُهُ. ولكني أسكَتُّ هذا الصوتَ باعتبار أنَّ إجابتي لا تطابق المباديء العامة فقط، بل هي ما أجمعت عليه الأمة بعلمائها وأفذاذها. وتحدَّث لي صوتٌ خفيٌّ قائلاً: (لِمَ لا تضيف إلى الاحتمالات السابقة احتمالاً آخرَ يقولُ أنَّ الناس لا يدركون أنَّ هذا الكتاب يمكن أن يخلِّصَهُم من العناء كلِّه في هذا الحياة، وأنَّ فَهْمَ القضيِّةِ على هذا النحو قد خفي عليهم؟!)

في تلك اللحظة نظرتُ إلى نفسي فرأيتُ صبياً قروياً ملطَّخَ الثوب برِجْلين مليئتين بالطين والتراب ونعلين أحدهما مقطوع الشسع، وطولَهُ أقصر من العصا التي يحملها..!، فضحكتُ بقهقهةٍ عاليةٍ إذ وجدْتُني افترِضُ أنَّ هذا الصبيَّ قد يكون مكتشفاً لأمرٍ فات ألوفَ العلماء لعشرات القرون في أكثر قضيةٍ بحثوا فيها وكتبوا وتناقشوا.. وكانت الضحكةُ مجلجلةً لدرجة أني خشيت أن يسمعني الرجل البعيد فيظنُّني قد جَنَنْتُ. وهي ضحكةٌ أسكتت ذلك الصوت ثلاثين سنة أخرى.

رجعت إلى إجابتي فوراً لأعزِّزُها خشية أن ينتابني غرورٌ يؤدّي بي إلى الجنون. وساعدت نفسي على ذلك بافتراض إجابةٍ أخرى لا أعلمها تجعل الإجابة الأولى أكثر قوَّةٍ.. وهكذا كَبَرْتُ وكَبَرَت الإجابةُ معي، حتى إذا بلغتُ مبلغَ الرجال ودخلت حلبة المجادلات كنت قد اكتنزتُ كمَّاً هائلاً من الدلائل على عظمة هذا الدين في تنظيم الحياة، وكمَّاً آخرَ من تفاهة الحياة وضرورة إنهاءها بالحسنى وبما أمر الله. وما أحسست بعد ذلك بهذا التناقض.. لأنه ما إن يُظْهِرَ الحقُّ قَرْنَهُ حتى أكسِرُهُ بفلسفة الباطل بلا هوادةٍ.

وتلك فلسفة الباطل بلا شكٍّ لا فلسفة الدين:

هل الحياةُ تافهةٌ؟!، والجواب: نعم!

هل الدِّينُ يُصْلِحُ الحياةَ ويهتمُّ بها؟!، والجواب: نعم.. فإنَّه أحسنُ من اهتمَّ بالحياة ونظَّمها.

فأذا كانت تافهةً ولا تساوي جُناحَ بعوضةٍ.. فلماذا اعتنى بها ونظَّمها؟!!!

descriptionالبحث عن نخبة داخل النخبة Emptyرد: البحث عن نخبة داخل النخبة

more_horiz
السنوات الاخيرة

وفي السنوات الأخيرة الماضية خطر في بالي أن استغلَّ فرصةَ المصائب الكثيرة التي مُنيتُ بها لتنفيذ أيِّ واحدٍ من المشاريع المؤجلة. وما كنتُ لأريد أن أدخلَ ذاكرة التاريخ كأحد (المؤلفين) ما لم أفعل شيئاً ذا منفعةٍ اكيدةٍ, أو قضية جديدة. فقد تعلّمتُ منذُ زمن طويلٍ أن لا أُرهقَ عقولَ الخلق بعنوان كتابٍ جديدٍ ليس فيه إلاَّ الترديد لما كتبه الآخرون في الزمن القريب أو البعيد. وكانت أمامي عدَّةُ خياراتٍ، فعزمت على البدء بأحدها .

فكرةُ هذا الخيار هي (التحدُّث عن الشر)، لأنَّ أكثر الناس قبلي قد تحدَّثوا عن الخير بما يكفي. أمَّا الشرُّ فقليلٌ جدَّاً من حاول الكتابةَ عنه كموضوعٍ يجمعُ بين رأي الاجتماع والدين والفلسفة والتربية والنفس في علومها المختلفة. وذلك في محاولةٍ لصهر هذه الفروع جميعاً في بوتقةٍ واحدةٍ واستخلاص فكرةٍ موثرةٍ في نفسِ كل قارئ تبعثُ فيها الأمل والاطمئنان وحبَّ الخير من خلال تجسيد الشرِّ، وإظهار صورته القبيحة لا كحوادثَ يمكن تأويلها أو تاريخَ يمكن الشكُّ أو التشكيك فيه، ولا كوعظٍ خالٍ من التأثير ومملولٍ من كثرة التكرار، ولا كنصائحَ تثير في السامع اعتزازاً ليهزَّ لها رأسَهُ بالايجاب ظاهراً ويمقتَها باطناً، بل رؤياً لحقيقة الشرِّ نفسِهِ مجسَّداً بصورته هو: مُكبِّراً لهذا الصورة على شاشةٍ واسعةٍ وكبيرةٍ مرئيةٍ بالألوان بعيداً عن القارئ، وذلك كي يذعرَ منه باعتباره عدوَّاً لا شريكاً وغادراً لا ذكياً.. ومتآكلاً متهالكاً في أكل غيره قبل موته. وبذلك يمكن تنفيذُ فكرةٍ تربويةٍ قائمةٍ على أساس مداعبة المشاعر الداخلية للنفس بإثارة نوازعها الخيِّرة إن كانت موجودةً لتظهرَ بقوَّةٍ أكبر. فلا ثناءَ على الخير لأنَّهُ الطبعُ المتأصِّلُ في النفس، وإنَّما هو التحذيرُ من الشرِّ باعتباره عدوَّاً للمتأصِّلِ لا خلاص من خَطَرِهِ إلاَّ بتكبير الخير إلى أقصى مدىً ممكنٍ. وهو شيء لا تخبر القارئ به، بل سيكون استنتاجاً من القارئ نفسه لا محيص له عنه.

وحينما بحثت في أمرَ (المنافقين) في القرآن لأجعلَ هذا البحث مؤيِّداً لي ولآرائي ـ كما جرت العادة ـ ورابطاً لهذه العلوم جميعاً.. توسَّعَ البحثُ عن الحدِّ المُقرَّرِ. فقد وجدتُ خمس عشرة صفةً من صفات هؤلاء مبثوثةً في الآيات مَّما اضطرَّني الى إعادة النظر بمواضيعٍ كنتُ قد قرأتها سابقاً في علم النفس، وتنظيمِ فصلٍ خاصٍّ سُمِيَّ فيما بعد ( معالجة القرآن للأمراض النفسية للمنافقين). وقد جعل ذلك المقدِّمةَ المقرَّر أن تكون في حدود ثلاثين صفحة.. جعلها ما يقرب من مئتي صفحة. ولم استطع الاختصار لأنَّ جميع ذلك كان ضمن الشرط الاول: (المعارف الجديدة).

ومع ذلك فإنَّ هذا الإسراع والجدَّ في تسجيل هذه المعارف الجديدة لم يوقفْ الشعور الداخلي المتنامي خلال الأيام السبعة أو الثمانية لكتابة المقدمة بوجود شيءٍ آخر أكبر لا أدري ما هو بعد. حتى إذا انقضت تلك الأيام كان الشيءُ الذي لا أدري ما هو قد كَبَرَ بما يكفي ليلقيَّ عليَّ ظلاًّ كثيفاً غمرني وجعلني أوقف العملَ وأؤجِّلَ الفكرة وأحاولَ أن احملقَ بقوَّةٍ لأراه.

لا يمكن بالطبع وصف هذا الإحساس في حينه، بل وبعد حينه. لكن يمكن القول أنَّ هذا الآيات وردت فيها ألفاظٌ معيَّنةٌ اتَّصلتْ مع بعضها، وتناوبت وتبادلت وتداخلت بطريقةٍ عجبيةٍ تجعلك مستمراً في الاستنتاج، ولا تدري متى تنتهي كشوفاتك منها، ولا تصحيحات معارفك القديمة!، كما ولا تدري معها كيف تشرح للقارئ كيفية تأييد بعضها للبعض، وتأييدها للعلوم الأخرى أو تأييد العلوم لها. وكان مثلي معها كمثل رَجُلٍ قال: أركبُ قارباً في هذا النهر ليوصلني الى البحيرة فأصطادُ سمكاً!. فأخذه النهرُ الى آفاق المحيط!!

descriptionالبحث عن نخبة داخل النخبة Emptyرد: البحث عن نخبة داخل النخبة

more_horiz
البرق اللامع


احمد عمران


ما اروع ما تاتي به لتسليط الضوء على مؤسس النظرية القصدية العالم العراقي : (( سبيط النيلي ))


رائع ايها الراقي



privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى