مخترع القصدية وحركة ترميم المعاجم اللغوية
فاطمة الشريمي
المدينة المنورة ]
منذ بدايات دراسة علم الكلام أو اللسانيات حاول العلماء وضع تعريف منطقي للكلام و لكن للاسف كل المحاولات بائت بالفشل , و لم تخرج بأكثر من تعريفها بأن الكلام أساسا هو دراسة علم لا منطقي على أنه لاتزال هناك فجوة آخذة في الاتساع بين المفهوم العميق و المفهوم السطحي للكلام , و لقد أدى اختلاف وضع المعاني الصحيحة بين ما يريده المتحدث و بين ما يصل إلى السّامع إلى حواجز شكلت تحديات عصيّة على العلماء في وضع قاعدة أساسية للسانيات , و هكذا مهما تفرعت علوم اللغة و توسعت في وضع محاور التحليل العامة فإنها تلتقي في الجوهر وهو مفهومها للغة ( بعدم قدرتها على مواكبة الحراك المعرفي للتحليل المعقول ) فأصبحت بين ضفتين لا تلتقيان وهي اعتباطية الإثارة اللغوية و لا منطقية النظام اللغوي , و من هنا يمكننا التركيز على نقطتين مهمتين في دور التحليل النصي :-
النقطة الأولى:اتبعها علماء النقد و اللغة و هي استبعاد المتحدث و جعل النص ملكا للمتلقي و لكن اكتشفوا بعد ذلك أن هذه الطريقة غير مجدية لأنها ستؤدي إلى اختلاف ملحوظ في وضع تفسير واحد للنص حيث أنه يصل إلى كل متلقي بطريقة مختلفة , بينما رأى البعض أن هذا من طبيعة اللغة إذ أن اللغة أساسا غير قادرة على توصيل المعنى الذي يريده الكاتب بالشكل المطلوب أو بتلك الدقة , إذن فهم يرون أن النص مشترك بين القائل و المتلقي .
النقطة الثانية: أن البعض رأوا بعد ذلك بإلغاء المتلقي و الاستناد على الكاتب أو ظروف كتابة النص فقط , وهي النقطة التي سببت الجدل و الخلاف بين القصديين و الاعتباطيين .
واستمرت المشكلة في وضع مفهوم للمعنى و التوصل إلى طريقة ناجعة لفك رموز النصوص ما يقارب ألف سنة للعالم الإسلامي وألفين سنة لأهل الكتابين , حيث تم استخدام رموز و مصطلحات كثيرة و متفرعة من اشتقاقاتها و لكنها تعود في النهاية إلى أصلها الاعتباطي و تعود إلى سطحيتها , و هذا ما أقر به علماء كثر من الغرب مثل دي سوسير أو رولان بارت حيث قالوا بأن علم اللغة لم يكن قادرا على فهم النصوص و كان فقط يجد معاني مرضية بعض الشيء للجملة الواحدة منفصلة عن كيان النص , و ذلك بإيجاد المرادفة للكلمات منفصلة و إعادة ترتيب الجملة .
عالم سبيط النيلي (2000\17\8 -1956)
هذا العالِم الذي كان يطمح إلى تبديل معاجم اللغة إلى معاجم قصدية , و قلب مفاهيم النصوص رأسا على عقب بعد أن عانت زمنا طويلا من الإبهام و التضليل , و أخذت مساحتها في التقلب بين أيدي المفسرين و النقاد و في كل مرة كانت تنال حبال مشنقة جديدة في منظور الفهم و التعليل دون أن تكون جليّة , و لقد كانت سنواته القليلة التي كرسها في البحث النصي معتمدا على دراسات تاريخية و فلسفية محطة عظيمة في الانتقال باللغة من مفهومها الاعتباطي إلى مفهومها العميق الذي يوضحه تحليل القصد من الكلام .
لقد لفتني أنه يحاول بشكل غير مباشر إلقاء بعض اللوم على المؤسسات الدينية في التفسير وخصوصا في تفسير النص القرآني و الأحاديث , و أنها المسؤول الأول عن بدايات ظهور الاعتباطية عن الجرجاني و الرازي , و كأنها تغافلت عن كون الرسول عليه الصلاة و السلام من الرافضين للاعتباطية رفضا قاطعا , حيث قال عن أحاديثه " ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته , و ما جاءكم عني بخلاف كتاب الله فأنا لم أقله " وهو - كما يعبّر – نص مشهور في الأمة و بهذا هو يناقض وضع علوم الأسناد لأنه لا يمكن الوثوق بنقل كلام عن شخص غير معصوم . و لا يمكن الوثوق بحديث عن طريق وضع مقاييس تنطبق على الرواة الثقة كذلك مالم يكونوا معصومون . بينما مقارنة النصوص النبوية ببعضها البعض أو بنصوص القرآن أكثر مصداقية و ثقة .
و بالنظر بشكل عميق إلى خلفية النيلي التي يقوم عليها بالمفارقة , هو أن الطريقة الاعتباطيّة تعني تناول الجمل بشكل منفصل عن النص و عن دوافع الكاتب و تفسيرها تفسيرا جامدا و غير منطقي بوضع مرادفات للكلمات الصعبة و إعادة ترتيب الجملة .
بينما الحل القصدي يفسر النصوص بمقارنتها ببعضها البعض و يفسر الكلمة معتمدا على الحركات و الأصوات المنتقلة في الهواء بشكلها الفيزيائي وهي التي تشكل القيمة المعنوية و بالتالي إيجاد معنى لكل حرف وهكذا كل كلمة لها معناها الخاص , و بهذه الطريقة يمكن كذلك إيجاد معنى كل كلمة في أي لغة على الأرض . على أن هذه الطريقة تضمن واقعية مقاصد النص و تقترب بشكل كبير من دوافع الكاتب أو ظروف النص نفسه , فتلقي الضوء على الزمن و تأثير الكلام على النفس و التاريخ و المكان دون أن تكون هناك فجوات غير مفهومة منطقيا .
لكن مع الأسف توفي هذا العالِم دون أن ينطلق شعاع هذا العلم كما أراد و خطط , و أعماله لم تزل تُنشر ببطء حتى تأخذ مكانتها في الأفهام و الإقدام على وضع حل جديد للغة . وقد اهتم كثيرا بمخطوطات يدوية لكتابه ( الحل القصدي في موجهة الاعتباطية ) , ثم أخرج أكثر من مؤلف يتناول قضايا قديمة للنصوص و يجددها على أساس إختراعه . مثل ( البحث الأصولي ) و ( الحل الفلسفي ) و ( النظام القرآني ) و غيرها من المؤلفات .
إلى جانب تفسيره الرهيب لملحمة جلجامش هذه الألواح السومري الإثنا عشر كونها لا تأخذ منحى الأسطورة التي تمثل صراع الآلهة و الخلود كما عرفها الناس منذ القدم و لكنها ترتبط بالنص القرآني و تشبه إلى حد كبير قصة ذي القرنين في أكثر الحقائق .
ولابد أن يسعني الحديث أيضا بأن أذكر محاولته الرائعة في تبيان عصر الإستخلاف على ضوء الحل القصدي في كتابه ( الطور المهدوي ) و من الحقائق التي ذكرها في الكتاب أننا آخر عالم يمر بعصر الاستخلاف و أن هناك عوالم أخرى تمر بالمهدوية قبلنا معتمدا على أحاديث أهل البيت عليهم السلام في أقوالهم عن أقوام بعيدة ( لا يعصون الله ما أمرهم ) و على تصورات و حقائق علمية فلكية .
لقد رحل النيلي مبكرا و قبل أن يتمم العمل لكن هناك من يقوم مقامه و يتبنى مشروعه الجاد في ترميم معاجم اللغة و الاستغناء تماما عن معاني الكلمات المرادفة و بهذا يقطعون دابر الاعتباطية و يعيدون الوعي العقلي للغة .
فاطمة الشريمي
المدينة المنورة ]
منذ بدايات دراسة علم الكلام أو اللسانيات حاول العلماء وضع تعريف منطقي للكلام و لكن للاسف كل المحاولات بائت بالفشل , و لم تخرج بأكثر من تعريفها بأن الكلام أساسا هو دراسة علم لا منطقي على أنه لاتزال هناك فجوة آخذة في الاتساع بين المفهوم العميق و المفهوم السطحي للكلام , و لقد أدى اختلاف وضع المعاني الصحيحة بين ما يريده المتحدث و بين ما يصل إلى السّامع إلى حواجز شكلت تحديات عصيّة على العلماء في وضع قاعدة أساسية للسانيات , و هكذا مهما تفرعت علوم اللغة و توسعت في وضع محاور التحليل العامة فإنها تلتقي في الجوهر وهو مفهومها للغة ( بعدم قدرتها على مواكبة الحراك المعرفي للتحليل المعقول ) فأصبحت بين ضفتين لا تلتقيان وهي اعتباطية الإثارة اللغوية و لا منطقية النظام اللغوي , و من هنا يمكننا التركيز على نقطتين مهمتين في دور التحليل النصي :-
النقطة الأولى:اتبعها علماء النقد و اللغة و هي استبعاد المتحدث و جعل النص ملكا للمتلقي و لكن اكتشفوا بعد ذلك أن هذه الطريقة غير مجدية لأنها ستؤدي إلى اختلاف ملحوظ في وضع تفسير واحد للنص حيث أنه يصل إلى كل متلقي بطريقة مختلفة , بينما رأى البعض أن هذا من طبيعة اللغة إذ أن اللغة أساسا غير قادرة على توصيل المعنى الذي يريده الكاتب بالشكل المطلوب أو بتلك الدقة , إذن فهم يرون أن النص مشترك بين القائل و المتلقي .
النقطة الثانية: أن البعض رأوا بعد ذلك بإلغاء المتلقي و الاستناد على الكاتب أو ظروف كتابة النص فقط , وهي النقطة التي سببت الجدل و الخلاف بين القصديين و الاعتباطيين .
واستمرت المشكلة في وضع مفهوم للمعنى و التوصل إلى طريقة ناجعة لفك رموز النصوص ما يقارب ألف سنة للعالم الإسلامي وألفين سنة لأهل الكتابين , حيث تم استخدام رموز و مصطلحات كثيرة و متفرعة من اشتقاقاتها و لكنها تعود في النهاية إلى أصلها الاعتباطي و تعود إلى سطحيتها , و هذا ما أقر به علماء كثر من الغرب مثل دي سوسير أو رولان بارت حيث قالوا بأن علم اللغة لم يكن قادرا على فهم النصوص و كان فقط يجد معاني مرضية بعض الشيء للجملة الواحدة منفصلة عن كيان النص , و ذلك بإيجاد المرادفة للكلمات منفصلة و إعادة ترتيب الجملة .
عالم سبيط النيلي (2000\17\8 -1956)
هذا العالِم الذي كان يطمح إلى تبديل معاجم اللغة إلى معاجم قصدية , و قلب مفاهيم النصوص رأسا على عقب بعد أن عانت زمنا طويلا من الإبهام و التضليل , و أخذت مساحتها في التقلب بين أيدي المفسرين و النقاد و في كل مرة كانت تنال حبال مشنقة جديدة في منظور الفهم و التعليل دون أن تكون جليّة , و لقد كانت سنواته القليلة التي كرسها في البحث النصي معتمدا على دراسات تاريخية و فلسفية محطة عظيمة في الانتقال باللغة من مفهومها الاعتباطي إلى مفهومها العميق الذي يوضحه تحليل القصد من الكلام .
لقد لفتني أنه يحاول بشكل غير مباشر إلقاء بعض اللوم على المؤسسات الدينية في التفسير وخصوصا في تفسير النص القرآني و الأحاديث , و أنها المسؤول الأول عن بدايات ظهور الاعتباطية عن الجرجاني و الرازي , و كأنها تغافلت عن كون الرسول عليه الصلاة و السلام من الرافضين للاعتباطية رفضا قاطعا , حيث قال عن أحاديثه " ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته , و ما جاءكم عني بخلاف كتاب الله فأنا لم أقله " وهو - كما يعبّر – نص مشهور في الأمة و بهذا هو يناقض وضع علوم الأسناد لأنه لا يمكن الوثوق بنقل كلام عن شخص غير معصوم . و لا يمكن الوثوق بحديث عن طريق وضع مقاييس تنطبق على الرواة الثقة كذلك مالم يكونوا معصومون . بينما مقارنة النصوص النبوية ببعضها البعض أو بنصوص القرآن أكثر مصداقية و ثقة .
و بالنظر بشكل عميق إلى خلفية النيلي التي يقوم عليها بالمفارقة , هو أن الطريقة الاعتباطيّة تعني تناول الجمل بشكل منفصل عن النص و عن دوافع الكاتب و تفسيرها تفسيرا جامدا و غير منطقي بوضع مرادفات للكلمات الصعبة و إعادة ترتيب الجملة .
بينما الحل القصدي يفسر النصوص بمقارنتها ببعضها البعض و يفسر الكلمة معتمدا على الحركات و الأصوات المنتقلة في الهواء بشكلها الفيزيائي وهي التي تشكل القيمة المعنوية و بالتالي إيجاد معنى لكل حرف وهكذا كل كلمة لها معناها الخاص , و بهذه الطريقة يمكن كذلك إيجاد معنى كل كلمة في أي لغة على الأرض . على أن هذه الطريقة تضمن واقعية مقاصد النص و تقترب بشكل كبير من دوافع الكاتب أو ظروف النص نفسه , فتلقي الضوء على الزمن و تأثير الكلام على النفس و التاريخ و المكان دون أن تكون هناك فجوات غير مفهومة منطقيا .
لكن مع الأسف توفي هذا العالِم دون أن ينطلق شعاع هذا العلم كما أراد و خطط , و أعماله لم تزل تُنشر ببطء حتى تأخذ مكانتها في الأفهام و الإقدام على وضع حل جديد للغة . وقد اهتم كثيرا بمخطوطات يدوية لكتابه ( الحل القصدي في موجهة الاعتباطية ) , ثم أخرج أكثر من مؤلف يتناول قضايا قديمة للنصوص و يجددها على أساس إختراعه . مثل ( البحث الأصولي ) و ( الحل الفلسفي ) و ( النظام القرآني ) و غيرها من المؤلفات .
إلى جانب تفسيره الرهيب لملحمة جلجامش هذه الألواح السومري الإثنا عشر كونها لا تأخذ منحى الأسطورة التي تمثل صراع الآلهة و الخلود كما عرفها الناس منذ القدم و لكنها ترتبط بالنص القرآني و تشبه إلى حد كبير قصة ذي القرنين في أكثر الحقائق .
ولابد أن يسعني الحديث أيضا بأن أذكر محاولته الرائعة في تبيان عصر الإستخلاف على ضوء الحل القصدي في كتابه ( الطور المهدوي ) و من الحقائق التي ذكرها في الكتاب أننا آخر عالم يمر بعصر الاستخلاف و أن هناك عوالم أخرى تمر بالمهدوية قبلنا معتمدا على أحاديث أهل البيت عليهم السلام في أقوالهم عن أقوام بعيدة ( لا يعصون الله ما أمرهم ) و على تصورات و حقائق علمية فلكية .
لقد رحل النيلي مبكرا و قبل أن يتمم العمل لكن هناك من يقوم مقامه و يتبنى مشروعه الجاد في ترميم معاجم اللغة و الاستغناء تماما عن معاني الكلمات المرادفة و بهذا يقطعون دابر الاعتباطية و يعيدون الوعي العقلي للغة .