النقد الحديث بين الغلو في التنظير والقصور في التطبيق ( مجال الشعر)

عباس أرحيلة

تمهيد:



هناك
أمران في الوجود الإنساني لا يقوم فيهما نظر بدون تطبيق، وهما: الدين
والعلم. في مجال الدين اقتضت عناية الله تعالى أن يبعث مبشرين ومُنذرين
لخلقه يحملون رسالات توجيهية إلى أقوامهم قصد تطبيقها والالتزام به. ويبدو
أنه في التجربة الإنسانية على الأرض؛ حصل قليل من التطبيق وكثير من الزيغ
والانحراف والصدّ عن منهج الله. وبالنسبة للتجربة الإسلامية؛ باعتبارها آخر
رسالات السماء إلى الأرض؛ ظلت ترافقها محاولات لإطفاء نور الله فيها،
والحدّ من إشعاعها، وتضاعفت وتنوعت وسائل الإطفاء في أزمنة الاستعمار
الغربي بكل امتداداته، وفي جهود أصحاب التنوير والقطيعة من أبناء العرب.


أما
العلم فمن البداهة القول بأنه يبدأ نظريا وينتهي تطبيقيا. ومن المعلوم أن
الإنسانية لم تتطور إلا حين عرفت العلومُ النظرية طريقها إلى التطبيق؛
برفعها لشعار العلوم التجريبية؛ ومن ثم كانت السيطرة على كثير من قوانين
الطبيعة؛ التي تمَّ استُثمارها في
تعمير الكون وتطويره. ولا شك أن البُطء الذي حصل في تاريخ العلوم في
القديم يرجع إلى المسافة التي كانت تفصل بين النظرية والتطبيق.


وما
التكنولوجيا إلا التطبيق العملي للنظريات الفيزيائية في مجال الصناعات.
وما الطفرة الحاصلة في مجالات التكنولوجية الحديثة إلا من آثار الاهتمامات
الكلية والمتسارعة بمجالات البحث العلمي في الغرب؛ مما تكاثرت معه
التنظيرات واتسعت المختبرات لاستيعاب التطبيقات؛ فكان الانفتاح على التصنيع
وكان التسويق فكان الاستهلاك، ثم الهلاك.


والتطبيق
هو اختيار لمجموعة من الافتراضات المنهجية والتصورات النظرية أثناء
التحليل؛ وذلك للتحقُّق من صحة القواعد المُفتَرَضة سلفا. ويأتي ما هو
تطبيقي، عامة، لتثبيت ما هو نظري مجرد، ونقله إلى إجراء حي، أي إلى ممارسة
فعلية تتأكد بها القاعدة وتتضح.


وفي
مجال النقد الأدبي الحديث، وفي الثلاثين سنة الأخيرة من القرن العشرين،
بشكل خاص، ازدادت تبعية الثقافة العربية الحديثة لكثير مما يجري في الغرب
المعاصر من مناهج ونظريات.


وبالرغم
من الانفتاح الواسع على التيارات النقدية الحديثة، والمتابعة الحثيثة لما
جدّ من نظرياتها؛ إلا أن التطبيقات على مجالات النصوص الشعرية العربية ظلت
دون ما تدعيه تلك النظريات من فتوحات في التحليل.


فما هي العوامل التي كانت وراء غياب التطبيق المطلوب في نقدنا العربي المعاصر، إن لمْ نقل فشله؟



أولا: أهل الإسلام في دورة حضارية متخلفة:



كانت
الدورة الحضارية في العصور الحديثة لصالح دول الغرب، فكانت لهم السيادة في
الأرض علميا وصناعيا وإيديولوجيا، وازدادوا مع الأيام تطوراً وتقدماً
وسيادةً، وتوجيها لسكان الأرض، وازداد ما سمي بالعالم الثالث تبعية وتقليدا
وخضوعا لسادة الأرض.


وكان هذا بفضل الطفرة العلمية التي انطلقت في الغرب خلال القرون الثلاثة الأخيرة، حيث تنوعت العلوم وتداخلت المذاهب والنظريات، وبلغت تلك الطفرة مرحلة مثيرة في مطلع الألفية الثالثة.

أما
عالمنا العربي فقد تغيرت مظاهر حياته منذ أن اصطدم بالحضارة الغربية، وأحس
بالمفارقة بينه وبين الأوربيين. وما التحولات التي شهدتها العصور الحديثة
تلك الحضارة جزءا من التكوين الثقافي للعالم الإسلامي عامة، كما أصبحت رمزا
وعنوانا للقوة والتطور، بل وعادت جزءا من كيانه المعرفي والحضاري(1).


وفي
الثلث الأخير من القرن العشرين أُصيب عالمنا العربي بأزمة في تشكيل
هُويته، والخروج من تخلفه، وتحقيق تنميته، ودخل في دوامة يمتزج فيها ما هو
سياسي بما هو اجتماعي ثقافي، وأصيبتْ نُخبُه بدُوارٍ معرفي لم ينتهِ حتى
الآن. واتضح له مع الأيام أنه يستعير كل شيء من هناك، وأن تلك النخبة ظلتْ
تتلهى بأسطورة الأصالة والمعاصرة، وهي تعيش، في واقع أمرها، فوضى ثقافية
باسم الحداثة العربية. ظلتْ تقتبسُ من أنوار الغرب لتستنير إلى أن احترقت.
ادعت التوفيق بين الذات والآخر، فخانها التوفيق، ووقعت في التلفيق؛ فوجدت
انشغالاتها المعرفية مرتبطة بثقافة لقيطة، وظلت تتفَنَّنُ في التقليد!


ومن
الملاحظ – كما يرى د.حسام الخطيب – أن العالم الثالث يستورد، في السياسة
كما في الأدب المعايير والأفكار والتحليلات وأنواع المواقف المختلفة من
العواصم الكبرى من العالم، وأن المناخ الأدبي العالمي أصبح مكوِّناً جوهريا
في تركيب الساحة الأدبية العربية، وأن المؤثرات أصبحتْ أقوى من أي حاجز؛
فضلا عن أنها في رأي الكثيرين لازمة ضرورية(2).


وتقرر
في رحلة التقليد حتى الذوبان، أن الانطلاق من أفكار الآخر شرطُ وجود، وكل
محاولة خارج هذا الشرط؛ تقع خارج «تثاقف» والتأقلم و«التعوْلُم» مع المناخ
العالمي. وها نحن اليوم نتشكَّلُ، ونتحدثُ عن أخطار المؤثرات، وما يزال
هناك من يدعو إلى تنقية تلك المؤثرات من الشوائب!


ولكن
ماء النيل يجري، وثرثرتُنا لا تنتهي فوقه! وقبل اليوم بدأت رحلة اغتراب
الشخصية العربية، منذ بدأتْ تتشكل خارج هويتها الإسلامية.




ثانيا: التفاوت بين مساحة التنظير ومساحة التطبيق:



الأصل
في مادة التطبيق في اللغة العربية أن يتحقق التساوي والتوافق والاتفاق بين
شيئين. والمطابقة أن يضع الفرس حافرة الخلفي في موضع حافره الأمامي.


وهذا
الفرس العربي اُصيب بالكُساح. والمُطَبِّقُ من الرجال – في لغة العرب –
الذي يُصيب برأيه. وهذا النوع من الرجال ما عاد له وجودٌ إلا في لغة
العرب!!(3)


ومنذ
كان الاتصال بالفكر الغربي كانت العناية الأولى تتجه إلى معرفة المناهج
الغربية، وتوافدتْ علينا طيلة القرن العشرين أدبيا الغرب بجميع أصنافها
وأجناسها. وشهد ذلك القرن تطورات متعاقبة في العلوم الإنسانية، وكان من
نتائجها حدوث ثورة في التعامل مع النصوص الأدبية، ومع مُضيّ الأيام انهالت
علينا المعارف وراحت تتحدد تصوراتنا للكون والحياة، وأخذت أدبياتها تَستلهم
أفكار الأوربيين، وتُقلدها في مضامينها وأشكالها.


نقلنا
تصوراتهم التي تُشكل نتيجة تطورهم الحضاري، وسعيْنا أن نُلْصقَها بواقعنا
الحديث، وأن نُعيد قراءة تراثنا في ضوئها. وواضح من انشغالات نقادنا أنهم
جرَّبوا أهم التيارات الغربية في النقد خلال الثلث الأخير من القرن
العشرين، وعانوا من تتبع ما توالى من اتجاهات حديثة في التنظير لتحليل
النصوص، ومن نقل المفاهيم الغربية المعقدة أحيانا في أصولها إلى اللغة
العربية.


ورغبة
في استيعاب كمية التنظيرات في الغرب؛ تعددت المترجمات والمتابعات
والتعليقات ووضع الحواشي على ما وضعه النقاد الغربيون، حتى اتسعت مادة
التنظير واتسع معها الخلاف في فهمها. وإذا كانت تلك التنظيرات قد انسجمت مع
نصوص أهلها، وحصل التوافق والانسجام بين
النظر والتطبيق؛فإن حقيقة التنظير انكشفت في تحليل ما لدينا من نصوص؛ إذ
تضاءل التنظير وانكشفَ عُقمُه حينما جاءت التطبيقات مُخيِّبة للآمال
المعقودة عليها. وفُقد التوازن بين كمية النظر وكمية التطبيق.


ولم
نكتف باستيراد التنظير حتى سعينا إلى استيراد التطبيق. ولاحظ أحدُ
الباحثين أن من أخطر المشكلات التي تواجهها الثقافة العربية عموما والعلوم
العربية خصوصا؛ استيرادُ أغلب الباحثين العرب لمفهوم التنظير والتقعيد من
الغرب؛« من أجل تلبيسه للظواهر العربية التي هي في أساس نشأتها عربية، هذه
النظريات المُطبَّقَة على المجتمع العربي هي نظريات مُعلَّبَة وجاهزة، وما
على الظواهر العربية إلا أن تُطوِّعَ نفسها لهذه النظريات » (4).


ويلاحظ
أن النصف الأول من القرن العشرين قد عرف انبعاثا للتراث الإسلامي، وشهد
تطلعا إلى التحرر من الاستعمار، ورغبة في الخروج من التخلف، وأنه حاول أن
يستوعب الآخر ويتمثَّلَه، ويُحافظ نسبيا على رؤيته النقدية، فكانت تطبيقاته
واضحة في آثاره النقدية.


أما
النصف الثاني من القرن العشرين، وخاصة الثلث الأخير منه؛ فقد أصبح فيه
النقد العربي الحديث يُسابق المرجعيات الأوربية حتى تقطعتْ أنفاسُه، وصار
يتماهى مع تلك المترجمات؛ يجتزئ النقولَ منها أحيانا ويبتسرها أحيانا أخرى،
ويدَّعي استيعابَها في أغلب الأحيان. وحين تأتي لحظة التطبيق، يرتدي أقنعة
الآخر، ولا تفي النظريات بوعودها، وما كانت تدعيه من سطوة وتسلط على
النصوص.


التنظيرات
في العصر الحديث أشهرت آليات التحليل في وجوه النصوص، حملت معها أنواع
المفاتيح السرية، وكشّافات الأسرار وخبايا الزوايا في الدهاليز، والخبرة
بأسرار اللسان ما يُفهم منه وما لا يُفهم، ومنحنيات الخطاب (وتمفصلاته)
وسراديبه. دخلت إلى عالم النصوص، وادعت القدرة على تفتيتها وتفكيك بنياتها
وإعادة تركيبها، ادعت القدرة على إنارة جوانبها ومقاربتها وتقريبها من
متلقيها؛ فإن يكن هذا تحقق في شيء منه عند غيرنا؛ فإن النصوص دخلت في
السديم، وأظلمت، وتفتتت فتحللتْ وتعفَّنَتْ، وأصبحت المقاربة مباعدة،
والإنارة «إظلاما».


والطريف
حقا أن تُصبح الكتابات النقدية نصوصاً يجري عليها ما يجري على النصوص
الإبداعية. والطريف حقا أن يتقرر في النهاية أن لا وجود لتفسير نهائي للنص،
وأن النص يتعدد بتعدد قرائه، وليست هناك دلالة ثابتة للنصوص، وكل القراءات
هي إساءة قراءات، مجرد تأويلات...


وتحلَّلَ
النقاد من وساطتهم بين النصوص والقراء التي كانوا يتباهَوْن بها، وتنازلوا
عن السلطة التقديرية التي كانت لهم على امتداد تاريخ النقد، وقيل للقراء
دونكم النصوص، تلَقَّوها وعيدوا كتابتَها وقراءتَها، فقد جاءت موجة التلقي،
فتلَقَّوْا ما طاب لكم التلقي!


وحين
فقَدَ النص الأدبي توهُّجَه الجمالي، طٌلِبَ من القارئ أن يُكسبَ النصَّ
أدبيتَه، طُلِبَ من القارئ أن يَهيم بالنص عشقاً، ألا يكون له محضَ متَلقٍّ
بل يصير له مُنتجاً، وبدأ كثير من نقادنا يتحدثون عن فاعلية القراءة، في
زمن تضاءلت فيه القراءة في ربوعنا، وتوارت فاعلية القراءة.


حين
بدأ الضَّجَرُ من كثير من النصوص المحدثة، وبدأ النفور منها؛ بدأ حديث بعض
النقاد عن لذة النص، والشهوة المتبادلة بين القارئ والنص.


وأستطيع
القول إن النص الأدبي الخالد افتقدتْه الإنسانية في الفترة الأخيرة من
القرن العشرين، أو أنها بدأت تفقده، فقد غابت عن الساحة النصوص الفاعلة في
التذوق الإنساني الرفيع؛ تلك التي كانت علامات دالة في تاريخ الآداب
الإنسانية.




ثالثا: لماذا كان الفشل في التطبيق؟

ما
هي أسباب غياب التطبيقات لما استجلبناه من نظريات نقدية من الغرب؟ لماذا
تضخم النقد وتعالى وتعملق في التنظير وتهاوى وتقزم في التطبيق؟ لو أردت أن
اختصر تلك الأسباب لقلت ما هو من البداهة بمكان؛ وهو أن تلك التنظيرات حين
استعرناها لم تنسجم مع مقاساتنا؛ لأنها مُستنسخة من مقاسات غيرنا، ووضعت
على مقاساتهم، مفاهيمها نشأت في مناخ مغاير لمناخنا، حتى ولو قلنا إن
العالم أصبحتْ مساحته لا تتجاوز رأس الإبرة.


ومن الأسباب التي يمكن أن أسوقها للفشل في التطبيق:

السبب الأول:

دخلت
الفلسفات الغربية بكل تعقيداتها وتناقضاتها مجالات النقد الأدبي، وهي
فلسفات لها خلفياتها الفكرية والاجتماعية والسياسية، وحدث في الغرب تطور
معرفي تشاركت فيه المذاهب والنظريات، وتراكمت فيه المعارف، وشارك كل ذلك في
تحليل النصوص: اللغويات الحديثة بكل إنجازاتها واجتهاداتها وما أحدثته من
نظريات في السيميائيات والأسلوبيات والتفكيكيات والتشيريحيات، والفلسفة،
والأنتبولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس... وتوالت تيارات الحداثة في
الغرب، منذ أواسط القرن العشرين، إلى أن أُعلِنَ عن موت الحداثة، وبدأتْ
مرحلة التجريب، وما كان منا نحن أيضا إلاَّ أن قتلنا أيضا الحداثة، وادعينا
البداية في التجريب. وما عرفنا اسما لتلك الحداثة التي قتلْناها! وما ندري
من أين نبدأ في التجريب، وما ندري ما التجريب، وماذا نُجرِّب!!


السبب الثاني:

حصل
تطور هائل في مجال الدراسات اللغوية في العصر الحديث. و"تعملق" النقد بفضل
هذا التطور، وأراد النقد أن لا تقل لغته إبداعا عن لغة النص، فانصرف إلى
نقد لغته ذاتها؛ فأصبحت النصوص النقدية إبداعية كذلك تزاحم بقية النصوص
الإبداعية.


ونحن
لم نستوعب الدراسات اللسانية الحديثة بطرقها العلمية في جامعاتنا، بالرغم
من كثرة مجامعنا اللغوية وندواتنا العلمية وجهودها وتوصياتها واقتراحاتها.


وفعالية
اتجاهات النقد الحديث، بكل أشكاله، كما هو معلوم، تقوم على عنصر اللغة في
النص. ومن المعلوم أيضا أن اللغة في ثقافة المسلمين هي الثقافة ذاتها
ونفسها وعينها، ولكن ساءت علاقتنا بلغتنا، وساء فهمُنا لها، وتوالت على
العربية المحن خلال تاريخها البعيد والقريب، ولم نُطور علاقتنا بها في
عصورنا الحديثة. فهم يتحدثون عن اللسان باللسان، ونحن نتحدث بغير لسان!


السبب الثالث:


أنه لم تعد لنا قناعاتنا ومنطلقاتنا التي كنا نقرأ بها، ومن خلالها منجزات
الثقافات الأخرى. كانت للثقافة في حضارة الإسلام هوية إسلامية في ضوئها
يحصل التفاعل مع الآخر تمثلا واستثمارا وحواراً. بتلك المنطلقات كنا نعرف
ما نأخذ وما ندع، وما نأخذه نعرف كيف نتمثله، وكيف نُعيد صياغَتَه في ضوء
الضوابط والمقومات المستلهمة من روح الدين الإسلامي، ومكتسبات الحضارة
الإسلامية؛ في تفاعلاتها مع الحضارة الإنسانية في سيرورتها.


السبب الرابع:

كانت
التيارات النقدية في الثلث الأخير من القرن العشرين في عالمنا العربي
بمثابة رياح موسمية؛ ما أن تبدأ مزمجرةً حتى تهدأ . فكل التقاليع البنيوية
والأسلوبية والتفكيكية والتشريحية والتداولية مرت بديارنا، وبدأت تتوارى عن
الاهتمامات، إنْ كانتْ ما تزال هناك اهتمات!


وسمَّى د. حسام الخطيب هذا الفكر الذي لا يستقر على حال فكراً مَوْجِيّاً؛ نسبة إلى الموج.« ففي
كل عقد من السنين نجد أنفسنا مُنجرفين باتجاه نوع من التفكير مصحوب
بالعدول عن التفكير السابق، بل بلوم الذات بسبب المعتقدات السابقة. وما أن
تستقر الموجة حتى تأتي موجة أخرى فتَنْقُضُها وهكذا دواليك، ويدخل في هذه
العملية المَوْجية عادةً الفكرُ والفنُّ إلى جانب السياسة والإعلام » (5).


ولاحظ
د. عبد العزيز حمودة أن التيارات النقدية تُولد لقيطةً في الحداثة العربية
المستوردة؛ مؤكدا استحالة الفصل بين المذهب النقدي الحداثي والمزاج
الثقافي الذي أفرزه ؛ لأن المشروع حينما يُنتزع من خلفيته الثقافية
ويُغرَسُ في تُربةٍ ثقافية مختلفة غريبة عليه يُثير كثيراً من البلبلة
والفوضى، هذا إذا قُدِّر له أن يعيش في المقام الأول(6).


ومن
المفارقات الطريفة أن الأمة العربية التي ظلت تنشد الوحدة والتوحد طيلة
القرن العشرين – ولن تقوم لهم قائمة بدون هذا – استقبل بعض نقادنا – من
منطلقة التبعية – التفكيكية التي تقوم على نسف التوحد وإلغاء التجانس،
وتنادي بالتعدد اللانهائي لتفسير النص، ورحنا بدورنا نتحدث عن التعددية
الثقافية وعن الدلالة اللانهائية.


السبب الخامس:

في
زحمة الحداثة المعاصرة، حين كان الغرب الحديث يعيش تحولات على جميع
الأصعدة؛ نقلنا أزمات أدب الغرب الحديث إلى أدبنا، ونقلنا"الأرض الخراب"
إلى أرضنا، وأسقطنا موضوعات الحداثة على تخلفنا، واستفحلت تبعيتُنا
للأدبيات الغربية حين أصبح شعار هو كسر المألوف والدول في الإغراب
والاغتراب، ونبذ التراث والالتزام بالقطيعة العنيفة مع الماضي، مع انجذاب
قوي نحو أشكال الفوضوية والعدمية.


ووُجد
أن الحركات المختلفة، التي ضربتْ في الاتجاهات المتباينة والمتعاكسة في
الغرب؛ ظلتْ تجمعُ بينها سمة مشتركة بوجه عام: إنها جميعا ترتاد مناهج
جديدة، وأهداف جديدة في الكتابة والفن والفكر(7).


فقد
كان الغرب يعيش تحررا فكريا، وتمردا عَقَديا، وقلقا وجوديا، وفي تلك
اللحظة التي تراجعت فيها القيم الروحية بشكل ملحوظ، وتفجر مسرح العبث في
الخمسينيات من القرن العشرين؛ توثقتْ صلتُنا بالعالم الغربي، ونحن نتطلع
إلى البناء والتنمية، وبدأت صلاتنا بتراثنا تنحل، وبدأنا عملية التطبيع:
نطبِّعُ ثقافة الآخر بطابعنا الخاص،ونتطبَّع بطابع المرحلة، ونسعى إلى
التطبيع مع من لا يريد التطبيع معنا، ونؤَصِّل لطبيعة خارج طبيعتنا،
ولهُويةً خارج هويتنا، وبقينا ننظر الذي يأتي ولا يأتي، كما ينتظر الغرب
"جودو"، ويزعم بعض مثقفي العلم العربي أنهم يُقدمون قراءات لتراثنا بمنظور
حداثي.


السبب السادس:

ومن
أسباب فشل التطبيق ازدواجية الولاء للأصالة والمعاصرة، فالمُطبِّق العربي
يتأرجح بين إنشاء حداثة عربية والنقل الصريح من الحداثة الغربية؛ انطلاقا
من مقولة الأصالة والمعاصرة. وازدواجية الولاء للأصالة والمعاصرة أوقعت لغة
النقد في أزمة، والمفاهيم في أزمة، وأوقعت المثقف العربي في تصادم مع
هويته، وفي عدم فهم ذويه له.
واعتبر
د. شكري عياد جوهر أزمة المحدثين العرب تكمن في ازدواجية هذا الولاء
للأصالة والمعاصرة، فيذكر أن الثقافة الغربية تمر بعصر من التجريب في كل
ميادين الفكر والفن، وهي لا تأبه لما يذهب إليه الحداثي العربي: والخطر في
بيئته العربية وعند قرائه العرب، يأتي من كونه غير مفهوم (Cool.


ورأى
د. عبد العزيز حمودة أن تلك الازدواجية هي التي« تفسر عملية الانشطار
الدائمة، والتناقضات القائمة والمستمرة عند الحداثيين الذين يضعون قدما في
المشرق العربي وقدما في الغرب الأوربي الأمريكي » (9).


وزاد من حدة التباعد وفساد التطبيق أمور ثلاثة:



أولها:

حدوث
أزمة إبداع؛ إذ بدأت الهوة تتسع بين المبدع وبين من ينتسب إليهم، وعمّق
النقاد هذه الأزمة، وجلبوا للنصوص"التقليعات" النظرية؛ فانخدع أهل الحداثة
بما استحدثوه؛ هذا مع العلم أن النقد العربي الحديث دخل اليوم مرحلة
الاجترار؛ إذ أصبح لا يمل من ترداد أسماء بعينها، ومقولات بعينها، ومراجع
بعينها.




ثانيها:

التناقض
الحاصل في فهم الأصول المنقول عنها، في كيفية تحديد مفاهيمها، في كيفية
نقلها، وكيفية تطبيقها. وتكمُن خطورةُ التطبيق حين تُستعارُ إجراءات
أُعدّتْ أصلا لشعرية خاصة، ويدعي صاحبها أن يقوم بتمحيص النظريات الغربية،
ويقوم بتكييفها وتطبيقها.


وثالثها:

أن أصحاب الحداثة النقدية من العرب حوّلوا ظاهرة الغموض« إلى كهنوت غامض يستعصي على التفسير، ويراوغ كلَّ محاولات الفهم» (10).



رابعا: من نتائج غياب التطبيق:



1
– حدوث قطيعة بين متابعة ما يُنشر من شعر على امتداد الثلث الأخير من
القرن العشرين وبين نقاده، إلا في القليل النادر. فالشعر موغل في الغموض
والضعف، والنقد موغل في التجريد والشح ، موغل في التهافت على آراء النقاد
الغربيين، ويلاحظ أن القراءات الشعرية قد اختفت من المنتديات. فهل اكتفى
الشعر أن يكون له يوم عالميٌّ كيوم الشجرة، ويوم الطفل، ويوم...


2
– حاولت التطبيقات أن تكون لها فتوحات في أدبنا العربي القديم والحديث،
فلم يتحقق شيءٌ مما ادعاه أصحابها. ومن جملتها تطبيقات لبعض البنيويين على
قصائد جاهلية وعباسية، وعلى قلة مما أنجز منها؛ كانت تابعة لأدوات إجرائية
وُضعت مواكبَةً لنصوص إبداعية غربية، وتمَّت بطرق آلية؛ فجاءت نتائج
التحاليل دون ما تدعيه التنظيرات من قدرة على الفتوحات في مجالات أشكال
الخطاب، ونتائج بعض التطبيقات، بعد الجعجعة النظرية، أتت من قبيل: السماء
فوقنا والأرض تحتنا، ولا تزيد على الشروح اللغوية المعجمية للغة النص.


وتناسينا
أن النصوص الغربية انبثقت من حساسية غربية، وواكبتها تنظيرات من الحساسية
نفسها، وقد تتحدث تلك التنظيرات عن نصوص افتراضية مثالية، وترانا ندعي
الكونية لنظرات باحثين غربيين، ونُخضع النص العربي لكلامهم؛ فتزداد العزلة
بين النظريات والتطبيق.


3
– كان لهذه التطبيقات أخطار على الثقافة العربية، فقد أثرت على مسار الشعر
العربي الحديث، وعلى بتر صلتها بالبلاغة العربية، وباللغة العربية نفسها
في أدائها الفني وصيغها التعبيرية. ولم تُعمق هذه التطبيقات التصورات
النظرية في النقد العربي الحديث، بل ويمكن القول إنها فشلت في تطويع
النظريات، كما فشلت في تعميق مفهوم الثقافة العربية في وجدان الشباب العربي
الناهض في الجامعات العربية، وعلى امتداد الوطن العربي.


4 - هذه التطبيقات أدخلت الثقافة العربية في متاهات، وشكلت عائقا دون اتصال تلك الثقافة بواقعها وهويتها، وبمجالها التداولي الإسلامي.



وفي الأخير،

أرى
أن أزمة التطبيقات تتجلى في مادة تحليل النصوص في تعليمنا الثانوي
والجامعي. فما هي المناهج التطبيقية التي أصبحت راسخة في كلياتنا؟ وما هي
النماذج التطبيقية التي رسخت أدبية الأدب في العصر الحديث؟ هل يمكن الحديث
عن إخفاق قرن كامل لم نتحرر فيه بعد، ولم نتقدم إلا كما يُراد بنا أن
نتقدم. وهل سنستقل في الألفية الثالثة ونحن نذوب ونتعولم؟ أما آن لهذه
الغفلة أن تزول، وهذا الليل أن ينجلي، وهذا الضلال أن ينتهي؟!




هوامش:



1 – الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة: د. نازك سابا يارد، ص12 – ط1 [ بيروت، مؤسسة نوفل، 1979].

2
– مقترحات مبدئية باتجاه نظرية عربية في الأدب والنقد: د. حسام الخطيب،
ص132 – 134 – [ مجلة الفكر العربي، الإنماء العربي للعلوم الإنسانية، كانون
الثاني ( يناير) شباط ( فبراير)، ع25، س4، 1982].


3 – لسان العرب: ابن منظور [ مادة: طبق].

4
– علم تحليل الخطاب وموقع الجنس الأدبي: د. مازن الوعر، ص18 – [ مجلة آفاق
الثقافة والتراث،س4،ع14- ربيع الثاني 1417هـ/ سبتمبر ( أيلول) 1996م].


5 – مقترحات مبدئية باتجاه نظرية عربية في الأدب والنقد، مقال مذكور، ص120

6
– المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك: د. عبد العزيز حمودة، ص164 –[
عالم المعرفة (132) ذو الحجة 1413 هـ/إبريل ( نيسان) 1998م]. وقال:" إنا
نستعير المصطلح النقدي، ونُخرجه من دائرة دلالته داخل القيم المعرفية؛ فيجئ
غريبا، ويبقى غريبا، ويذهب غريبا. النتيجة الطبيعية هي فوضى النقد التي
خلقها الحداثيون العرب"، ص37


7
– طرائق الحداثة ضد المتوائمين الجُدُد: رايموند ويليامز، ترجمة: فاروق
عبد القادر، ص87 – 88 – [ عالم المعرفة(246) صفر 1420هـ/يونيو(حزيران)
1999].


8 – المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب، ص18 [ عالم المعرفة(93)].

9 – المرايا المحدبة، ص32 – 33

10 – نفسه، 177